لأوّل مرّة... أشعر بالهزيمة

رنا نجّار

معرفتي بكَ ضئيلة. لكنّني لا أنسى ذاك المشهد في مكتبك المتواضع، يوم كنت أتدرّب في جريدة «السفير». تقول لضحى شمس: «أشعر أنني اليوم جاهل... لم أقرأ ما فيه الكفاية في فترة بعد الظهر». انبهرتْ. سألتُ نفسي أيُعقل أنّ رجلاً مثلك يصف نفسه بالجاهل، وأمام تلميذة ما زالت تتدرّب في الأقسام التي ترأسها؟
معرفتي الشخصية بك، ضئيلة. لكنني تعلّمت من مقالاتك العميقة أكثر مما درست وحفظت وقرأت في حياتي. وحده أسلوبك السهل الممتنع جذبني إلى قراءة المقالات السياسية. هو ليس الأسلوب وحده، بل المعلومات الغزيرة المبسّطة، التي تفكّك شيفرتها، لتسهّل علينا فهمها وترسيخها في عقولنا كحقيقة عامة.
لقد علّمتني الفرق بين اليمين واليسار، وأنا على مقاعد الدراسة. نبّهتني إلى خطر التنين أميركا. عرّفتني، كغيري من القراء، إلى أهم الكُتّاب والمثقفين في العالم. أشعلتَ في داخلي حبّ المعرفة والبحث عن كتب ومصطلحات وقضايا... فتّحت عينيّ على فهم المعرفة. أيقظتَ روح المواطنية في داخلي، التي لم تنجح الحكومات اللبنانية متتاليةً، ولا المدارس ولا المناهج الجديدة، ولا حتى كتب التاريخ المزيّف، في إيقاظها أو تغذيتها.
سأفتقدك كل صباح، كما افتقدت صباح الإثنين في 26 شباط، عندما نقرت عبر الإنترنت على موقع «الأخبار» الإلكتروني، لأجد أنّ جزءاً يومياً وحقيقياً قد فُقد من حياتي. «صلاة صباحية» هي مقالتك، على ما يقول هيغل.
أشعر بالسخافة وأنا أكتب هذه الكلمات عند الفجر، لكنها الطريقة المثلى التي قد تفرّج عن تلك «الخنقة» التي تقبض على رقبتي، والغصّة العالقة في مكان ما في سقف حلقي.
معرفتي الشخصية بك ضئيلة، لكنّ وجهك الحامل هموم البلد، لا يفارق عيني! ابتسامتك، تهذيبك وخُلُقكَ المميّزان، أناقتك الصباحية وأنت تفتح لي باب المصعد في مدخل جريدة «السفير»، هناك حيث تعلّمت أصول الصحافة والمهنة منك. هناك حيث فتحت لي مكتبك لأستعمل جهاز الكمبيوتر خاصتك، وأنا ما زلت في مخاض تجربة المهنة والتدريب. هناك في الطابق الرابع حيث “عزمتني” على “كباية” شاي. وأنا كنت خجولة ومندهشة. أولاً، لأنني لم أرَ شخصاً بتواضعك. ولم أكن أحلم أن أجلس معك على الطاولة نفسها. لا بل تقرضني كمبيوترك الشخصي حيث ملفّاتك وبريدك الإلكتروني... هناك في ذاك المكتب النظيف، المرتّب، البسيط، غير المتكلّف، لا تكسو جدرانه اللوحات الثمينة، ولا الصور مع القادة والزعماء والسياسيين المزيّفين، إلا عبد الناصر.
أفتقدك، ليس وحدي، أنا وزملائي القرّاء، وأهلي وإخوتي في البيت، حيث نجتمع في العشية، نناقش ما كتبت ونرسل إلى بعضنا بعضاً مقالاتك عبر البريد الإلكتروني. أخاف على والدي، لقد قاطع الأكل مذ عرف بالخبر «الهزيمة» على حد قوله.
أفتقدك لأنك المحلّل الذي أثق به وبفكره وبحبره، لأنك المثقف بالمعنى السارتري الشاهد على عصره، ضمير الجماعة، منارتها وصوتها. المثقف الملتزم المنخرط في قضايا عصره ومجتمعه، الناطق باسم المضطهدين. الصحافي في المواقع الأمامية في المواجهة مع السلطة وسياسات الاستغلال. جوزف في الطليعة دائماً، على صفحات الجريدة، وفي حياتك وفي حياتنا اليومية. أفتقدك، لكنني كنت واثقة أنّ الانسحاب لا يليق برجل مثلك، ولا الاستقالة ولا حتى التقاعد، كما فعل أبناء جيلك، ممّن عايشوا خيبات سياسية متلاحقة، إقليمية ومحلية، ولا هذه الصفات من صفاتك. أنت مقدام كما عهدناك، وكما يقول لي والدي، أنت موسوعة، أنت المعلّم، كما نناديك نحن جيل الشباب في الصحافة. لم تحتوك السلطة ولم تبتلعك طائفتك، ولم تبع نفسك «لشيطان الأوضاع القائمة».
هذه ليست شهادتي فقط. إنها شهادة والدي، ذاك المدمن على قراءة مقالاتك، ذاك الذي بكى كطفل حين ارتميتُ في أحضانه ساعة الخبر «الهزيمة»، إنها شهادة والدي رفيقك في منظمة العمل.
جوزف سماحة، نفتقدك. بِنون الجمع.

لا تضيّعوا جدل جوزف

موسى برهومة

لئن وقع عليّ نبأ غياب الرفيق جوزف سماحة كصاعقة أيقظت دمعاً متحجّراً في العيون منذ زمن بعيد، ولئن ضاعف دمعي وجعله يهطل مدراراً صوتُ الصديق بيار أبي صعب أكثر أحبة جوزف وأشدهم قرباً إلى نفسه، فقد هالني ما كتبه الفنان الكبير زياد الرحباني في مقالتيه “باسم الحفنة” (الاثنين 26 شباط) و “ما العمل” (عدد الأربعاء 28 شباط).
ومصدر استغرابي ممّا كتبه زياد (الذي يتعين أن يكون جامعاً لا مفرقاً) آتٍ من الحزمة الهائلة من الافتراضات التي قدّمها لما ظنّ أنّه يدور في أذهان أولئك الأغيار الذين كانوا سعيدين بغياب جوزف سماحة، كون غيابه، أو بلغتهم اختفائه “يعني اختفاء الإزعاج المشاغب اليومي لمشاريعهم، زوال عقبة ذكيّة كاشفة أمام ألغاز أطباعهم وخفايا نيّاتهم، اختفاءَ نَفَس طويل معتَّّق دؤوبٍ على شرحهم وتشريحهم”.
إن من شأن التأمل في الغياب الخاطف المرير لجوزف أن يوقظ قنديلاً من تفكّر فيما آلت إليه أحوالنا نحن المثقفين والكتّاب والمسيّسين اللبنانيين والعرب، حيث طحنتنا ماكينة الوقائع اليومية في أقصى التباسها وتناقضها، وأعمتنا عن رؤية السري فينا وإدراك القاسم المشترك بين البشر عندما يقفون ذاهلين عاجزين حتى عن الحقد في حضرة الموت، فما بالك إذا كان الموت يسرق من بيننا الأبهى والأعز والأجمل والأرقّ؟
الغياب الذي تركه جوزف يتعين أن نملأه بالحب، لا بقهر الحزن واستبداله بلغة ثأرية تتناسى الألم وتتشبث بالمكائد ونبش ما في النفوس من قوى شر تتنازع الجمال في الروح والوجدان.
إن لغة زياد الرحباني تذهب إلى الفرز، وتراها مسكونة بتقسيم الناس إلى فئات وأطراف وأجنحة من دون إدراك لذلك الثاوي بين الضلوع الذي يحفز المخيلة على الانتصار على الظلام ومقاومة عتمة الغياب الذي يهزأ بالكائنات المستلبة.
ما العمل؟ يتساءل زياد الرحباني، ويريد لمقولة لينين أن تتحول إلى برنامج لتعويض الفراغ والكفّ عن الرثاء، لأن الرثاء، بحسبه، يتوجه إلى ميت، وجوزف لم يمت.
وهل مات جوزف حقاً؟
لا لم يمت. الأفكار الكبيرة لا تموت. الأشجار السامقة تنحني قليلاً لتداعب الريح لكنها لا تسقط. والشمعة تتوارى لكنها لا تنطفئ. وهكذا يتعين علينا نحن رفاق جوزف أن نعاين غيابه وأن ندرب أرواحنا على احتمال أن نفتح الصحيفة فلا نعثر على قلمه وهو يوجه البوصلة ويثقب جدران الصمت.
لم يكن جوزف شكّاءً ولا هجّاءً ولا سبّاباً، فلنسر نحن رفاقه على ضوء روحه المشع أبداً. ولنشمخ به كي يكون شامخاً بنا في رقدته الأبدية.

في وداع الرفاق الأربعة

كريم مروة

ودعت، وودع لبنان، في أسبوع واحد على التوالي، أربعة مواطنين غير عاديين، من رفاقي القدماء والأقل قدماً. أربعة رموز ديموقراطيين مضيئين من أهل اليسار. ينتمون إلى جيلين مختلفين في العمر، متباعدين في الزمن في أبعاده المتعددة. اختار كل منهم، على طريقته الخاصة به، انتماءه إلى اليسار في زمانه. واختار كل منهم طريقه الخاص به إلى هذا الانتماء. وحدد كل منهم، وفق ما كان يقتنع به، موقعه الخاص به، وموقعه العام، في الفكر وفي السياسة وفي الحياة، داخل تحولات العصر الكبرى. إنهم، في التسلسل الزمني اليومي للغياب: إدمون عون، مي غصوب، عبده مرتضى الحسيني، جوزف سماحة.
لن أدخل في التصنيف وفي التوصيف لتحديد مدى حبي وتقديري لهم، بالمفرد وبالجمع، ولا لتحديد علاقتي الشخصية والسياسية بكل منهم. فذلك أمر صعب في هذه اللحظة بالذات. وهذا أمر طبيعي، بلا جدال. سأتجاوز هذا الأمر لأقول، ببساطة ومن دون بلاغة، إني افتقدت بغيابهم جزءاً مني، جزءاً من سيرتي الفكرية والسياسية، جزءاً من وطني، ومن علاقتي العميقة المشتركة معهم، بالوطن اللبناني، وطن اللبنانيين جميعاً، من كل الأطياف، ومن كل الأفكار، ومن كل الأهواء، ومن كل الحالات التي يتميز فيها كل الناس الأحرار.
أذكرهم فرداً فرداً، رمزاً رمزاً، فكراً فكراً. أذكرهم في أنماط للعيش متعددة، متمايزة، متفارقة، متجانسة في عشق الحرية، وفي شوق الإنسان لديهم، في توقه، من دون شروط، للمستقبل، في وطن حر سيد، وطن لا تحكمه، أو تحكم فيه، أحكام ضد إرادته، من داخله أو من خارجه، قسراً، وبإكراه لا يقبله الحق، ولا يقبله العقل، ولا يقبله العدل، ولا تقبله الإنسانية. أذكر فيهم وجعي. أذكر فيهم أملي. أذكر فيهم وطني النازف حتى أعماق الروح.
يا وطني اللبناني
أقسم، باسم رفاقي، ممن ودعنا بالأمس، وممن ودعنا من قبل أمس، أقسم باسم رموز الزمن الماضي، ورموز الزمن الحالي، ورموز الزمن الآتي، أقسم، باسم رفاقي في الموت وفي القتل وفي الخطف وفي الظلم وباسم الشعب الحر السيد، شعبي، باسم شعوب الأرض المظلومة، وغير المظلومة، لكن غير الظالمة، أقسم إني اخترت لأهلي من كل الأجيال، اخترت لهم بالوعي الصادق، ولكل اللبنانيين، اخترت الوطن اللبناني، وطناً من دون شروط في الضد وفي الحقد، وفي التقديس وفي التكفير وفي التخوين، وطناً من دون وسائط من كل الأنواع، وطناً من دون خرائط، فيما يبدو كالأوطان المزروعة عسفاً، قسراً، كرهاً، في الوطن الواحد، ضد طبائع بنيان لا أوطان، كل الأوطان، إلا وطني لبنان.
أقسم إني اخترت لكل اللبنانيين وطناً من بين الأوطان جميعاً، وطناً لشباب بلادي، ولأولادي ولأحفادي ولآبائي ولأجدادي، وطناً لشيوخ بلادي، من كل الأعمار، ومن كل الآفاق، ومن كل الأطياف، وطناً لا يعرف زمناً لبدايته، أو زمناً لنهايته، أو زمناً لشفاء جراحات ما زالت تنزف فيه من دون توقف.
اسمح لي يا وطني، باسم رفاق قد ودعناهم بالأمس، خصوصاً، اسمح لي أن أعلن للعالم في أعلى صوتي المجروح المبحوح، أني قد أرهقني التعب، وأرقني التفكير بمستقبل أولادي، وبمستقبل أولاد بلادي.
ولأني ما زلت أتابع سفري الدائم خلف نعوش رفاق قد ذهبوا منذ بدايات التاريخ، ورفاق قد ذهبوا قبل نهايات التاريخ، اسمح لي يا وطني أن أعلن أني أرقني الأمل، وأرهقني ما أنتظر، وما ينتظر بلادي، في ما تنعم به جميع الأوطان.
ولأني أقترب سريعاً مما يعتبر لدى الإنسان نهايات العمر، ولا يأتي ما أنتظر، ومن أنتظر، لشباب بلادي، ولهذا الوطن الآتي من قلب التاريخ، والذاهب في عمق القادم من تاريخ العالم، اسمح لي يا وطني بأن أرثي باسمك من ودعنا في هذي الأيام الصعبة، أيام الخُلف وأيام الفتن النائمة، وأيام الموت، وأيام القتل، ولا فرق.
اسمح لي بأن أعلن باسمي، باسم الأحلام المتكسرة، وباسم الأحلام المستنفرة، برغم مرارات الأعوام الماضية، وبرغم تجاربنا فيها، الخسارة بدور منا وبأدوار أخرى خارجة عنا، باسم الآمال الآتية إلينا من قلب المستقبل، اسمح لي بأن أعلن أني لن أترك أهلي في وطني إلا وأنا معهم في الدرب إلى مستقبل زمن، في وطن تزدهر الحرية فيه، وتنتعش الآمال الحائرة، وينهار جدار الظلم، وينتصر الوطن على جلاديه.
لكني، وأنا في لحظة توديع رفاقي في الحق وفي الحرية، رفاقي في الوطنية، رفاقي في الأمل الآتي حتماً بالحرية، أرجو أن يفهم إخواني في كل البلدان العربية، أن اللبناني عريق في حب الحرية منذ بدايات التاريخ، وأن له الحق في أن يلقى منهم غير التصنيف المستغرب في باب التخوين وتكفير المختلف، من حق اللبناني أن تحترم خياراته، ونضالاته، وأن يُعطى فرصة عيش، وهو الساهر أبداً منذ بدايات الحرب العربية لحرية شعب فلسطين، الساهر من دون شروط أو منة، الباذل أقصى ما في طاقته من حب لفلسطين، وللبنان، ولكل بلاد العرب، وللحرية.

ملاك عند الله

بلال تقيّ الدين

صاحب القلم النجم... بريقك لم يخب. بل يزداد وسيزداد إشعاعاً ونوراً يسطع عند كل شروق شمس تماماً كما كنا نقرأ مقالك الافتتاحي بشفافيته وصدقيّته وبالكلمة الحرة صائبة الرأي، روحها الوطن وركنها الإعلام في زمنٍ الوطن بحاجة إلى «جوزف سماحة» أحد أركان القلم الذين تعملقوا بمستوى كتاباتهم في السياسة.
أقول لك شامخاً في دنياك.. وفي العلى..
بغيابك عنا وعن رفقاء دربك الصحافيين.. أصبحنا في دائرة مفرغة ودوامة ترمينا في مستنقع الأقلام المستوردة كسلعة للبيع في سوق للنخاسة.
لقد أعطيت الكثير لوطنك.. وللعرب.. ودافعت عن الحق ولم تطلب شيئاً لنفسك. لقد دافعت عن المظلومين ومسلوبي الحقوق ووقفت إلى جانبهم بصلابة في جميع المآسي التي عانوها.
على الرغم من غيابك.. تركت لنا «نفحات زاهرة» ممن اقتدوا بقلمك وكلمتك.
كم من حي ميت.. وكم من ميت حي..
جوزف سماحة.. أنت حيّ فينا بكل كلمة سطّرها دم يراعك ووصلت إلى قلب كل لبناني، وإن عاجلاً أو آجلاً سيقدّر قرّاؤك قيمة ما كتبت وسيشعرون بافتقادهم لك.. فيد القدر القاسية أخذتك من محبيك وليس في استطاعتنا الاعتراض عليه. فمشيئة الله الخالق عزّ وجلّ هي أقدر من كل شيء.
جوزف سماحة.. عمود من أعمدة الكلمة هوى.. ولكن كلمته الحرة والصادقة والجريئة باقية في القلوب في زمن سقطت فيه القيم.
جوزف سماحة صاحب كلمة فاعلة عميقة أشبه بالجندي المجهول الذي رفض الظهور العابر في وقت كثر فيه الاّدعاء.. في السياسة والشأن العام والإعلام.. في زمن هاجس وسائل الإعلام (المرئية خصوصاً) هو تعبئة الهواء لدسّ الفتنة والنعرات.. وتجارة الصورة والكلام.
كريم أنت.. ولا يزايدنّ أحد عليك في عروبتك ولبنانيتك. ولعائلتك الكريمة تعازينا الحارة والصبر والسلوان، ولنقابتَي الصحافة والمحررين عائلتك الثانية.