جان عزيز
لا حلول للأزمة اللبنانية، وقد تكون التسويات الموقتة على طريقة الهدنة، مستبعدة أيضاً. هكذا تختصر صورة الوضع الراهن، بحسب أوساط دبلوماسية غربية. والقراءة الأولية هذه، زكّاها دليلان إضافيان أوّل من أمس. من الجهة السورية إعلان رفض مطلق لمبدأ المحكمة الدولية، في صيغة مقولة صلاحية القانون السوري. ومن الجهة الأميركية خروج سيناريوهات الضربة العسكرية لإيران، الى العلن والإعلام، وأبرزها وأكثرها تفصيلاً، تقرير أنطوني كوردسمان عبر «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» في واشنطن.
ماذا يعني المؤشران المذكوران؟ أن سوريا لم تلبّ الحسابات الإيرانية الداعية الى هدنة مرحلية تجنبها المواجهة الجبهية مع أميركا في ظل ظروف وتوقيت تفرضهما واشنطن.
والولايات المتحدة نفسها لم تقتنع بالمساعي السعودية العاملة على إمرار المأزق الراهن بالممكن من التسويات، وهذا يعني أن مواقف الحلفاء باتت متقاطعة على «تحالفات موضوعية» بين الخصوم. بحيث تبدو الرياض حليفة موضوعية لطهران في قراءاتهما الداعية الى دفع الانفجار. فيما تبدو دمشق حليفة موضوعية مقابلة لواشنطن، في إصرارهما على إسقاط المقترحات التسووية.
ما الذي يفسّر هذه الحسابات؟ تقول الأوساط نفسها إن مفتاح فهم هذه المفارقة يكمن في تحديد محور اهتمام كل من سوريا وأميركا وبالتالي في معرفة جوهر سياسة كل من القيادتين في البلدين. فالنظام السوري حدّد لنفسه أولويتين اثنتين، كل ما عداهما وسائل وتكتيكات ومناورات: أولاً استمرار النظام واستقراره، وثانياً استعادة ما يمكن استعادته من «الجرم اللبناني» الى الفك السوري. فيما الإدارة الأميركية تبدو كأنها تملك أولويتين اثنتين مقابلتين: الخروج من مأزق العراق، ووأد المسار النووي الإيراني.
وانطلاقاً من هذه الأولويات المتباعدة شكلاً، يفهم التقاطع الموضوعي بين «العدوين».
فدمشق ارتاحت الى حياة نظامها، منذ راح الإعلام الاسرائيلي يسرب أخباراً عن لقاءات مزعومة بالمسؤولين اللبنانيين. وهي راحت تطمح الى العودة الى ما قبل 26 نيسان 2005. منذ بدا هؤلاء المسؤولون عاجزين عن تعيين مدير عام، أمني أو تربوي.
لا بل إن الحديث قبل أكثر من عام عن ارتقاب فرصة لتكرار اتفاق مورفي ـ الأسد، في خريف 2007، بات اليوم أجندة سورية جدية، تحرّك أداء دمشق الشامل حيال الأزمة اللبنانية بكل تفاصيلها.
وفي المقابل، فإن واشنطن الناظرة إلى المنطقة من الزاوية العراقية ـ الإيرانية حصراً، ومن ضمن الضوابط والمقتضيات الإسرائيلية كخط أحمر، لم تعد ترى في الجوانب السورية واللبنانية من الأزمة، غير هوامش وسائلية، رغم المظاهر الشكلية المغايرة.
غير أن هذا الوضع الراكد أميركياً، فتح المجال في شكل غير متوقع، للتفكير في المقترحات والأفكار «الطرفية»، حيال الوضع اللبناني. فنتيجة تحول الملف اللبناني إلى مجرد «ملحق» للقضايا الأساسية على الكومبيوتر الأميركي، نشط أصحاب الحلول الجذرية، في التنظير والتسويق. واللافت أن نظريتين اثنتين متناقضتين برزتا في هذه السوق المفتوحة أميركياً. الأولى قديمة وعنوانها عودة سياسة التلزيم، مستدلّة بالمثل الصومالي الأخير والاستعانة بإثيوبيا، «راعية إقليمية» لمستنقع مقديشو. والثاني جديدة، غير مسبوقة في الأدبيات الأميركية حيال لبنان طيلة ثلاثة عقود، وعنوانها «الحل الدستوري».
إذ تؤكد الأوساط الدبلوماسية نفسها أن البعض في واشنطن بدا للمرة الأولى منذ مدة وجيزة، جاهزاً للاستماع إلى أفكار حول «الفدرالية». وفي مرحلة تالية بدا البعض نفسه مهتماً بطرح الأسئلة عن «دراسات القابلية العملية» لمثل هذه الاقتراحات. حتى إن الاستيضاحات تناولت مواقف الجماعات اللبنانية المختلفة من الطرح، وتأثيره على موقع كل منها في النظام، والقدرة على التكيّف معه. كما بلغ الاهتمام نفسه حد الطلب إلى أصحاب الفكرة وضع بيبليوغرافيا شاملة لمواقف القوى المختلفة من «الحل الدستوري» تاريخياً. وقيل إن أكثر من زائر لبناني إلى واشنطن، ممن رموا الفكرة كمجرد مفهوم نظري، سئل عمّا إذا كان ثمة مسوّدة عملية (بلو برنت) لمشروع تطبيقي له.
وتؤكد الأوساط نفسها أن أكثر من جهة سياسية ومرجعية لبنانية قد تنامى إليها هذا الجو، وباتت مطلعة عليه، بمعزل عن حقيقة موقفها منه، تأييداً أو رفضاً. وتشير تدليلاً على صحة هذه الوقائع ودقتها، إلى أن مرجعاً روحياً بارزاً أشار أمام زوار أجانب التقوه في مقره قبل مدة، إلى أنه «إذا كان ثمة في الخارج من قرر العمل على تقسيم لبنان، فقد نكون عندها في وضع من لا حول له ولا قوة».
هل يمكن أي من الفكرتين الطرفيتين أن تجد سبيلاً إلى الترجمة الفعلية، في ظل المواقف اللبنانية المجمعة على تأييد خيارات أخرى؟ تجيب الأوساط نفسها باستذكار أن الهيمنة السورية على لبنان، ترافقت مع لازمة دولية عنوانها التمسك بسيادة الدولة اللبنانية، كما أن قيام جدار برلين تم في ظل اجتماع أوروبي ودولي على وحدة الأمة الألمانية.