نقولا ناصيف
لا قمحة ولا شعيرة، بل الزؤانة التي تشبه حبة القمح من غير أن تكون شعيرة. على نحو كهذا تلقّف المسؤولون والجهات السياسية المعنيّة النتائج التي عاد بها السفير السعودي عبد العزيز الخوجة من الرياض، بعد مشاورات الساعات الأربع والعشرين الأخيرة. وقد عاد بالأفكار الآتية:
ـ اقتراح عقد اجتماع بين رئيس المجلس نبيه بري ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري توصّلاً الى قواسم مشتركة في حل يزامن تأليف حكومة الوحدة الوطنية مع الاتفاق على تعديل المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. واستند الخوجة في كلامه الى عودة وشيكة للحريري الى بيروت، حاملاً أفكاراً شجع السفير على مناقشتها. وهو الموقف الذي أبلغه أمس الى بري.
ـ اقتراح عقد اجتماع بين بري ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة رفضه رئيس المجلس، مسجّلاً على السنيورة مواقف اتخذها في الفترة الأخيرة اعتبرها مسيئة وتحول دون لقائهما، في الوقت الحاضر على الأقل.
ـ أكد موقف المملكة أنها على مسافة واحدة من طرفي النزاع، وليست في وارد محاولة فرض رأيها على أحد منهما. وللملك عبد الله موقف إيجابي من الفريقين، وهو أنه يأمل في اتفاقهما، بلوغاً الى تسوية سياسية مرضية.
خلاصة ما عاد به السفير السعودي أمران:
أولهما أن لا تطور منتظراً على صعيد التسوية الداخلية قبل انعقاد اجتماع دول جوار العراق في بغداد السبت المقبل، وقد يمتد الفراغ الى ما بعد التئام القمة العربية في الرياض يوم 28 من هذا الشهر. ومغزى ذلك أن كلاً من الغالبية والمعارضة، وحتى ذلك الحين، سيتسلح بشروطه لرفض أي حل من دون هذه الشروط ريثما يطرأ ما قد يجعلهما يعدلان عن هذا التصلب.
وثانيهما تأكيد رئيس المجلس للخوجة أن لا جديد لديه للتفاوض عليه سوى انتظاره موافقة قوى 14 آذار على معادلة 19 + 11 لحكومة الوحدة الوطنية التي هي البند الوحيد للحوار والاتفاق، مع تشديده على أن لا عقبات في طريق التفاهم على تعديل مشروع المحكمة الدولية. أما بالنسبة الى قانون الانتخاب فهو محطّ إجماع طرفي النزاع على مباشرة البحث فيه في مرحلة تالية لإطلاق التسوية السياسية. وهكذا باتت الحكومة، في تقويم المعارضة، أصل المشكلة وأول حلولها.
تبدو بذلك، في الظاهر على الأقل، مراوحة المشكلة في تحديد النصاب الذي سيكوّن حكومة الوحدة الوطنية. وقد بات الطرفان متفقين ضمناً على النصاب السياسي، ومختلفين على النصاب الحسابي. وبينما تصرّ قوى 14 آذار على معادلة 19 + 10 + 1 بغية ضمان استمرار العمل الحكومي والحؤول دون تمكين الفريق الآخر من إمساك زمام السيطرة على انعقاد جلسات مجلس الوزراء أو الاستقالة للتسبب بإسقاط الحكومة، ويجد هذا الفريق الضمان الفعلي لذلك في الوزير الحادي عشر ـــ تتمسك المعارضة بالثلث المعطل وتؤكد في الوقت نفسه استعدادها لتقديم تطمينات شافية للغالبية باستقرار عمل السلطة التنفيذية وديمومة الحكومة متى تحققت داخلها المشاركة. وخلافاً للغالبية التي تميّز الوزير الحادي عشر عن الوزراء الآخرين، تريد المعارضة الوزير الحادي عشر في صلب رزمة حصتها كاملة في الحكومة الجديدة قبل تحديد دوره، على أن تتفق والطرف الآخر على تسميته.
والواقع أن رئيس المجلس يتحدث باستغراب لافت في أوساطه عن نظرة الغالبية، ورئيس الحكومة خصوصاً، الى معادلة 19 + 10 + 1، مذ طرح السنيورة هذه المعادلة للمرة الأولى في كانون الأول الفائت بصيغة 19 + 9 + 2، وكان قد أرفق تصوره لها خطياً الى رئيس المجلس، مقترحاً توزّع حكومة الوحدة الوطنية كالآتي: 19 وزيراً لقوى 14 آذار (متخلية عن ثلثي مجلس الوزراء)، في مقابل 9 وزراء للمعارضة (من دون إعطائها الثلث زائد واحداً)، على أن يخضع الوزيران الباقيان لثلاثة شروط: عدم استقالتهما من الحكومة، عدم تغيّبهما عن جلسات مجلس الوزراء، ألّا يصوّتا في مجلس الوزراء عندما يُطرح عليه التصويت. وبدا الشرط الأخير الأكثر مدعاة لاستغراب رئيس المجلس واستهجانه بتوزير شخصين يكونان في المعارضة من غير أن يلتزما خياراتها وقراراتها السياسية، ولا يمارسان في واقع الحال حقهما الدستوري الرئيسي وهو التصويت، ما يحيلهما تقريباً... كرسيين شاغرين لئلّا يكون في متناول المعارضة تعطيل العمل الحكومي.
وعلى وفرة المناقشات الدائرة في بعض أوساط قوى 14 آذار عن ضرورة بعث آمال في التوصّل إلى صيغة حل مقبول ومتكافئ لكل من الطرفين تحرم أياً منهما الاستئثار بالسلطة التنفيذية، وتقدّم مكاسب ظاهرية لهما وتنطوي في الوقت ذاته على ضمانات متبادلة، تبدو المعارضة في حاجة الى مكسب سياسي تبرّر به إنهاء الاعتصام المفتوح في وسط بيروت وتسوّق لأنصارها نجاحها في الحصول على «الثلث المشارك» الذي هو «الثلث الضامن»، وتبدوقوى 14 آذار بدورها في حاجة إلى مكسب سياسي مناقض هو أن تقول لأنصارها إنها لم ترضخ لما طلبته المعارضة، أي الثلث المعطل، وتحافظ على استقرار العمل الحكومي وتحدّ من إمكانات دفع الحكومة إلى الاستقالة، وسعياً الى مخرج يمكّن الطرفين كليهما من أن يقول لقاعدته إنه لم يخسر معركته، تردّد أن رئيس المجلس لم يمانع في اقتراح كان قد طرحه أمامه النائب بطرس حرب قضى بأن يكون الوزير الحادي عشر في كفالة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، فلا يستقيل ولا يتغيّب فيضمن استمرار العمل الحكومي، ولا ينضم الى الغالبية كي لا يمنحها الثلثين للسيطرة على نصاب التئام مجلس الوزراء واتخاذ القرارات المصيرية فيه، ولا ينضم الى المعارضة لئلّا يمنحها هي الأخرى الثلث زائد واحداً المعطل لانعقاد مجلس الوزراء والمبرّر لاستقالة الحكومة. لكن شرط بري الدائم هو أن يكون هذا الحل وفق معادلة 19 + 11.
بذلك يؤول تفاهم الطرفين على النصاب السياسي للحكومة الجديدة الذي يجسّده الوزير الحادي عشر بكفالة بكركي، الى تجريد النصاب الحسابي من أي أهمية. ويصبح توزّع حصص الحكومة الجديدة غير ذي جدوى سواء اعتمدت معادلة 19 + 10 + 1، أو 19 + 11، لأن الوزير الحادي عشر في المعادلتين يصبح هو الضامن الفعلي لمجلس الوزراء. يؤدي ذلك الى نتيجة إضافية هي أن اتخاذ القرارات المصيرية التي يحددها الدستور تصبح ثمرة توافق بين فريقين يفتقر كل منهما إلى الصوت الذي يرجّح غلبته.
لكن واقع الأمر أن المشكلة لم تعد تنحصر بالضرورة في الضمان الذي يتطلبه كل منهما. وفي خضمّ أزمة ثقة حادة بينهما، أضحت الاعتبارات الشكلية موازية في أهميتها لفحوى الضمانات المطلوبة. أي أن كلاً منهما يريد أن يسجّل لنفسه أمام الداخل والخارج انتصاراً سياسياً مدوّياً.