جوان فرشخ بجالي
قليلة هي الكنائس المنتشرة في جبال لبنان وأوديته التي لا تزال تحتفظ بجدرانيّات يعود تاريخها إلى القرون الوسطى (من الحادي عشر إلى الثالث عشر ميلادي)فالزمن والإهمال وترميم الكنائس من دون دراسات هندسية دمّرت في العقود الماضية القسم الأكبر من هذا الوجه الأثري للبنان. لكن ما بقي من هذه الرسومات على جدران عشرين كنيسة هو اليوم محور دراسات فنية معمّقة لتحديد هوية الرسّامين

جرت العادة على اعتبار جدرانيات الكنائس اللبنانية «صليبية» المصدر، أي أن رسّاميها كانوا يأتون المنطقة بناءً على طلب من قائدها، ويرسمون الجدرانيات المستوحاة من الإنجيل والعهد القديم وفقاً للأسلوب البيزنطي، ثمّ يرحلون من بعدها عن هذه المدن التي لا يكون لسكانها أي علاقة فعلية بهذه التحف الفنية. وكانت تلك الفكرة قائمة في القرنين: العشرين والتاسع عشر، بعد أن قام عدد من الرحّالة والباحثين الغربيين بدراستها ووصفها.
ولكن هذه النظرية تعتبر اليوم مرفوضة من قبل بعض مؤرّخي الفن اللبنانيين. فهم يرون في هذه الجدرانيات فناً محلياً بحتاً ويعملون على إثبات ذلك. فبالنسبة لهم، هذه الرسومات التي تزين بعضاً من الكنائس والأديرة والكهوف قد أنجزها رسامون محليون يتميزون بأسلوبهم البسيط عن فنّاني بيزنطيا وباقي مدن الأمبراطورية الذين يتبعون طرقاً مرفّهة في الرسم. ويضاف الى الدراسة التقنية في الرسم استعمال اللغة السريانية أو اليونانية، ونادراً باللاتينية لشرح الرسومات. ونظم بعض من مؤرخي الفن البيزنطي اللبنانيين مؤتمراً في معهد لويس بوزي في المكتبة الشرقية التابعة للجامعة اليسوعية تحت عنوان «دراسات جديدة حول جدرانيات القرون الوسطى في لبنان»، وجرى عرض دراستين تفصيليّتين لكنيستي: سيدة نايا في كفرشليمان ومار سركيس وباخوس في كفتون، التي كان اكتشاف جدرانياتها بمثابة دفعة إلى الأمام لرواد هذه النظرية.
فهذه الكنيسة القابعة على ضفاف نهر الجوز مهجورة منذ مئات السنين وكان هيكلها قد بدأ بالتصدع، الأمر الذي حثّ المسؤولين عنها إلى ترميمها. وما إن بدأت الأعمال حتى وقعت الياسة القديمة مزيلةً الستار عن جدرانيات رائعة الجمال. قسم منها كان يغطي صدر الكنيسة كلوحة «التضرّع» وأخرى على الجدران مثل «البشارة» ولوحات لأنبياء العهد القديم في الكتاب المقدس، وأخرى لقديسين.
وتقول الدكتورة ندى حلو، مؤرخة في الفن البيزنطي، التي أتمت دراسة مفصلة عن هذه الكنيسة «لقد نفذ هذه الرسومات رسام أيقونة العذراء المعروضة صدر كنيسة السيدة في دير كفتون والتي تعود الى القرن الثالث عشر. وهذا ما يسمح لنا بالقول إنه كان في إمارة طرابلس مدرسة لرسم الأيقونات والجدرانيات. ولهذا الرسام، ورسامين آخرين درسوا في هذه المدرسة أكثر من جدرانية، حفظ البعض منها في كنائس أخرى في جرد البترون».
يعدّ تحديد مدرسة محلية (في لبنان) لرسم الجدرانيات والأيقونات بمثابة خطوة مهمة جداً في تاريخ الفن البيزنطي الذي سيصنف هذه الجدرانيات على أنها مختلفة تماماً، كما هي الحال بالنسبة لرسومات الكابادوس في تركيا.
ويقول ليفون نورديغيان، الباحث في الجدرانيات والأستاذ في جامعة القديس يوسف إن «ما يعطي دعماً قوياً لهذه الدراسات هي «جمعية المحافظة على جدرانيات الكنائس القديمة في لبنان» والتي كانت قد أتمت هذه السنة أعمالها في كنيسة سيدة نايا في كفرشليمان. فبعد التنظيف والترميم، ظهرت اللوحات بكامل جمالها وتفاصيلها بعد أن أزال المختصون الإيطاليون دخان الشمع الأسود الذي كان يغطيها. فوصف هذه الجدرانيات اليوم يختلف تماماً عما كان عليه البارحة. فحول رسم «المسيح الضابط الكل» التي تزين سقف كهف كنيسة كفرشليمان ظهرت رسومات تجسد الرسل الأربعة وأخرى لملائكة لم نكن نعرف حتى بوجودها. وكلما تم ترميم وتنظيف هذه الجدرانيات كشفت عن تفاصيل قد تعيد كتابة تاريخها.
والتحدي اليوم بالنسبة للمؤرخين يكمن في البحث عن التمويلات الضرورية لترميم هذه الجدرانيات التي تتوزع في كنائس الطوائف المارونية والأرثوذكسية على حد سواء. فهذا الإرث الوطني في حال خطر دائم، فالجدرانيات بحالة حفاظ سيئة جدا،ً ومع الأسف لا يعرف أهميتها إلا عدد قليل من المختصّين ومحبّي هذا الإرث الثقافي، التاريخي والديني.