إبراهيم الأمين
اشتهرت الادارة الاميركية بإدارة المفاوضات بين العرب والعدو الاسرائيلي بما عرف يومها برسائل التأكيدات أو رسائل الضمانات. وكان يقصد بهذه الاوراق أن الجانب الاميركي ليس مجرد وسيط أو مستضيف للمتحاورين، وأن الادوار المطلوبة من اطراف النزاع لا تكفي لطي صفحات من خلافات تتجاوز الابعاد المحلية. ويبدو أن مشكلة المبادرة السعودية او الوساطة السعودية تكمن في غياب هذه الرسائل.
وأظهرت الاتصالات الاخيرة أن الجواب الاخير الذي تلقاه الرئيس نبيه بري بوصفه ممثلاً للمعارضة، من الملك السعودي عبد الله بن العزيز، اقتصر على تكرار الاستعداد العملاني من جانب الرياض لاستضافة الاطراف اللبنانيين في حوار يهدف الى رسم حل لأزمتهم، لكنه ليس بوارد تقديم أي التزام مسبق أو أي خطوة تستهدف الضغط على طرف دون الآخر بغية الوصول الى هذه التسوية، وهو الأمر الذي كانت المعارضة تريد تكريسه أساساً للتفاوض التفصيلي على بنود الازمة وشكل الحل، وهو الأمر الذي قصده بري عندما لجأ الى المراسلات الخطية وتجاوز المشافهة التي يمكن أن تتآكل عند أي تصعيد أو ضغط خارجي، وهو ما هرب منه فريق 14 آذار، الذي يبدو منقسماً، وهذه المرة يبدو الانقسام حقيقياً وليس نظرياً حول آلية التعامل مع الازمة في المرحلة المقبلة.
وحسب مصادر معنية، فإن بري كان قد اختصر تصور المعارضة ومطالبها بورقة تتضمن مطلب الثلث الضامن بوضوح لا لبس فيه، ما يعني الحصول على 11 وزيراً من أصل ثلاثين، مقابل تعديلات جوهرية على ملف المحكمة الدولية تشكل أساساً لتفاهم على هذا الملف الحساس. وقال بري ما يعرفه الآخرون من رفاقه في المعارضة من أن الانتخابات النيابية ليست مستعجلة اليوم وكذلك الانتخابات الرئاسية، وإن الحكومة الجديدة تقوم وتتولى أمر البت بتعديلات مشروع المحكمة وتتولى إعداد قانون جديد للانتخابات النيابية. وأضاف بري ما هو ضروري بشأن آلية العمل على هذا الحل لناحية اللجنة التي تتولى درس ملاحظات المحكمة ثم تدرس طريقة تأليف الحكومة الجديدة، وطريقة الوصول الى الحكومة التي تقر مشروع المحكمة وترسله الى رئاسة الجمهورية قبل إحالته الى المجلس النيابي لإقرارها بالصورة المناسبـــــة.
لكن بري كان يتكل على أمر مهم يتعلق بتلقيه تفهماً سعودياً لورقته، وبتقبل من خلال وصف الافكار بأنها عاقلة وقابلة لأن تتحول الى أساس منطقي، لكن الأمر كاد ينتهي على شكل القول “سررتنا بكلام فسررناك بمثله”، إذ إن بري كما المعارضة، يرغبون في سماع التقييم السعودي الايجابي، لكنهم يريدون من الرياض ان تتبنى ما تراه منطقياً وأن تناقش ما لا تراه منطقياً، وفق آلية من النوع الذي يفرض على الجميع الاقتراب من الحل، وهو الأمر الذي تجنبته الرياض، ولم تلزم الآخرين من حلفائها به، وذهبت باتجاه طريق آخر يتمثل في القول إن الافكار المهمة ربما تقابلها أفكار اخرى. وان السعودية اذا وجدت في هذه الفكرة او تلك منطقاً صحيحاً فهي لن تسعى الى فرض رأيها، وهو بيت القصيد.
بحسب الآلية الأولى فإن السعودية أبلغت من يهمه الأمر بأنها مقتنعة بأن المعارضة لن تسير في حل من دون الحصول على الثلث الضامن. لكنها سمعت في المقابل رفضاً بدا ضعيفاً في الفترة الأخيرة، لأن فريق 14 آذار الذي كان يريد المحكمة أولاً ثم قال إن منح المعارضة الثلث المعطل سوف يمنع قيام المحكمة من داخل الآلية اللبنانية، وصل الى حدود بات مضطراً فيها لأن يحدد هواجسه، وهو ما فتح الباب أمام التباين الذي لا يتصل بمصالح صغيرة، إذ إن وليد جنبلاط وسمير جعجع لا يملكان من التمثيل ما يتيح لهما الحديث كالكبار، بل على العكس فهما انحسرا تدريجاً حتى صارا في الموقع المرتبط فقط بدائرة الاهتمامات الاميركية.
لكن كتلة المستقبل، بما تمثل، تعرف أن الامر يتعلق اولاً وأخيراً بحماية هدفها المركزي المتصل بالمحكمة الدولية، وهو ما دفع الى قيام تباينات مع رئيس الحكومة فؤاد السنيورة نفسه، حتى وصل الأمر حد قول أحد أو (إحدى) أقطاب “المستقبل” إنه يصعب “أن تفدى الحكومة بالمحكمة”، وهو أمر له تفسيرات كثيرة ولا سيما أن الخبثاء كثر. لكن الواضح فيه أن السعي الى تحقيق تسوية تضمن تمرير المحكمة يتطلب تنازلاً جدياً في المقابل. وليس هناك سقف ادنى تنزل تحته المعارضة من سقف الثلث مهما جرت تسميته معطلاً أو ضامناً أو ممثلاً، وهو ما دفع بعض الوسطاء الى محاولة صياغة جديدة للعبارات التي تعكس المقايضة بين الثلث وبين مشروع المحكمة. حتى جاء تصريح الحريري امس من أن الثلث لن يكون مقابل تأليف اللجنة التي سوف تدرس الملاحظات على المحكمة، وهو إيحاء يحمل الكثير علماً بأن البعض دعا الى عدم المبالغة في التعامل مع هذا الموقف، لأن الحريري علم كما الآخرون أن الجانب السعودي أبلغ قوى المعارضة أنه يقبل بقاعدة 19 + 11، وانه يتفهم كل هواجس المعارضة حول المحكمة والسعي الى عدم تسييسها. لكن الحريري يمكنه أن يتكل على كلام سعودي مرفق فيه أن هذا التفهم أو الموافقة لا يعني التزاماً من النوع الذي يفرض على فريق 14 آذار.
ومع أن المشروع السعودي يهدف الى فرض آليات ربما تكون مفتوحة اكثر لأجل التوصل الى حلول لها اسس قوية، فإن المعارضة التي فوّضت قواها إلى الرئيس بري إعداد ورقة الأفكار وقبلت التنازل عن أشياء كثيرة للتوصل الى حل سريع وقريب، عادت وأبلغت السعودية وإيران وآخرين بأنها لا ترغب في التصعيد، لكنها لن تقبل بلعبة تسويف الوقت. وهي التي تشعر بأن فريق السلطة لا يريد حلاً، وأن الجهات الاقليمية والدولية الراعية تريد تمرير مجموعة من الاستحقاقات الاقليمية تبدأ بمؤتمر بغداد وتنتهي بالقمة العربية، دون ان يكون على طاولتها ملف متفجر كالملف اللبناني. وهذا الكلام بحسب المعارضين لا يقود الى تغييرات جوهرية في التكتيك المتبع، لكنه يقود الى فرض قواعد جديدة للعبة، تلزم الطرف في السلطة، كما الوسيط، تحمّل مسؤولية إفشال المحاولة الجديدة. وهو امر صار مفهوماً عند الناس بأكثر مما يظن أهل الحكم حتى ولو ظلوا يعيشون وهم الأكثرية لا حال الاكثرية الوهمية فقط!.