جان عزيز
تسعة أعوام بالتمام، لا يزيدها غير يومين اثنين، تفصل بين زيارة رفيق الحريري إلى بكركي في 6 آذار 1998، وزيارة سعد الدين الحريري إلى الصرح في 8 آذار 2007. زيارتان تستبطنان القراءة الكاملة لتاريخ حقبة، وأسرار مراحل، وتستشرفان السؤال: ماذا بعد الزيارة، قبل الأعوام التسعة، ماذا بعدها أول من أمس؟
للوهلة الأولى، تبدو الخطوتان مختلفتين بالكامل، سياقاً سياسياً وخلفية وتطلعات وأشخاصاً. غير أن تدقيقاً أكبر يظهر التشابه في الجوهر، حتى التطابق.
ففي آذار 1998، كان الحريري الأب قد أمضى عامين ونيّف في جنّة استمراره في الحكم بعدما تمكّن من إنجاز أول خرق لدستور الطائف، عبر تنفيذ قراره التمديد لالياس الهراوي. وكان قد حقق ذلك بتحالفه الاستراتيجي مع عبد الحليم خدام في دمشق وغازي كنعان في عنجر. وبلغ إنجازه حد الكمال المبرم، حين تمكّن من استصداره بفرمان مباشر من حافظ الأسد، عبر جريدة «الأهرام» المصرية، من دون أي «استئناس» لبناني، أو شورى أو دستور.
وفي آذار 2007، كان الحريري الابن قد أمضى عامين ونيّف في جحيم السلطة الملتبسة، والمنبثقة من ثالث تعديل لدستور الطائف في 3 أيلول 2004، وهو التعديل الثالث الذي وافق عليه والده طبخاً واقتراعاً، بعد عامي 1998 و1995.
في آذار 1998، صعد الحريري الأب إلى بكركي، في سياق خطوة استباقية وقائية كان هدفها استمالة الصرح الماروني في شكل خاص، عشية الاستحقاق الرئاسي العتيد. وفي تصوّر حريري تبيّن أنه كان يهدف إلى «تنويم» الموارنة والمسيحيين عن فكرة استعادتهم دورهم وشراكتهم في الدولة والنظام والوطن. وكانت الذريعة المعطاة آنذاك، أن «الظرف الإقليمي» قد فرض سقوفاً واضحة لهامش الحياة السياسية، وأن الواقعية تقتضي العمل تحت تلك السقوف.
وفي آذار 2007، صعد الحريري الابن إلى الصرح، في سياق خطوة استباقية وقائية مقابلة، عنوانها تقسيط الحقوق المسيحية بحجة مواجهة «الظرف الإقليمي» نفسه. قبل تسعة أعوام كان الخطاب مبنيّاً على مقولة مسايرة الأسد. قبل يومين، الخطاب أساسه محاربة الأسد. وفي الحالين العملة الوحيدة المتداولة في سوق القطع الحريري تأجيل الحقوق المسيحية، وإقناع أصحابها بخطأ مزعوم في أولوياتهم.
قبل تسعة أعوام سألت بكركي عن استمرار اعتقال سمير جعجع، فأجاب الحريري حرفياً: «إنه مجرم، هكذا يقول القضاء»، قبل أن يعقّب: «أنتم تريدون خروجه، أو سجن الآخرين؟»، وقيل إن ضحكاً طويلاً أعقب استيضاحه. حتى أن صحيفة قريبة منه كتبت في اليوم التالي عن إثارة موضوع جعجع، أنه «كانت هناك نظريتان، الأولى تميل إلى الإفراج عنه، والثانية إلى معاملة الآخرين بالمثل. وأجمعت غالبية المجتمعين على تبنّي النظرية الثانية...».
بعد تسعة أعوام، سألت بكركي عن نحو 46 نائباً مسيحياً «معتقلاً» لدى الجماعات اللبنانية الأخرى، نتيجة تمكّن فريق السلطة من استبقاء قانون الحريري ــــــ كنعان للعام 2000، ونتيجة الإنذار بعدم وجود أي نيّة حريرية لتغييره، بعد مرور نحو عامين على صمت مطبق حيال أي طرح حريري جديد في هذا المجال، وبعد مرور نحو عشرة أشهر على استباحة حكومة فؤاد السنيورة لقرارها القاضي ببتّ مشروع القانون الجديد النائم في أدراجها منذ أيار 2006.
قبل تسعة أعوام سألت بكركي عن مرسوم التجنيس، فأجاب الحريري الأب بأن الأرقام المقدمة إلى الصرح مغلوطة ومضلّلة، وأن المجنّسين فعلياً عام 1994، لا يتعدّون مئة ألف. سألت بكركي، عن الخلل في التوازن الطائفي داخل الإدارة، فرد الحريري نافياً. سألت عن انتخاب الرئيس المقبل، فأجاب بأنه يجب أن «يتمتع بمواصفات مقبولة لبنانياً، ولا يكون معادياً لسوريا». سألت عن عدم تسجيل معاملات المغتربين لتثبيت أولادهم لبنانياً، وعن التآمر السلطوي على المدرسة الخاصة، وعن «التباطؤ الفاضح في إعادة المهجرين»، وعن «اللامبالاة بغياب نحو 700 ألف مهاجر تركوا لبنان منذ 1975»، وعن «حصر الاهتمام بالعاصمة... المرهق للخزينة»، وعن خطر التوطين، و«قصر استعمال وسائل الإعلام على المحظوظين والموالين»، وعن «تغييب المسيحيين عامة والموارنة خاصة عن وظائف الإدارة العامة»...
قبل تسعة أعوام لم تسمع بكركي أي جواب. بعد أشهر على تلك الخلوة، انطلقت سلسلة اجتماعات صباحية بين قريطم والحمام العسكري. اكتشفت إحدى مؤسسات الاستطلاع الحريرية أن شعبية إميل لحود مرتفعة. مشى رئيس الحكومة، فانتهت مفاعيل خلوة بكركي حتى إشعار آخر، لم يشعر المسيحيون به قط.
بعد تسعة أعوام، تبدو بكركي أكثر تنبّهاً. أو هي أشدّ مناعة، أو اعتباراً من لدغة سابقة. المعلومات تؤكد أن ثمة تشاوراً تمّ بينها وبين بعض المعارضة، على قاعدة أن التسوية، إذا ما نضجت وأقرّت، ستعطي المحكمة لطرف، والحكومة الضامنة لمضمون بيانها «المقاوم» لطرف آخر. فماذا عن الصرح؟ لذلك أضيف قانون الانتخابات، وتم التوافق على أن يشكل إضافة ثابتة في أجندة المعارضة أيضاً.
قبل 9 أعوام كتبت بكركي إلى الحريري: «إن مطلب المسيحيين أن ينتخبوا هم أنفسهم ممثليهم ويحاسبوهم... لا أن يُفرضوا عليهم فرضاً، ويستمروا في الحكم والمناصب لمصالحهم ومصالح منصّبيهم».
بعد 9 أعوام طبق الأصل... والفروع الأخرى.