راجانا حميّة
ميرا صيداوي، الصبيّة الفلسطينيّة التي لم تتقن الرسم يوماً، وجدت نفسها بالأمس تحرّك القلم وترسم «وطناً أحبّه ناجي (ناجي العلي) ومات من أجله»، رسمت من دون هويّة، لكن من كل شيء، منها ومن جدران المخيّمات ومن ناجي ومن «صمت» أمّها و«نبض» الفنان أحمد قعبور. «النبض» الذي ولد منذ سنتين مع ميرا (طالبة في السنة الثانية ــــــ علم نفس)، عندما جاءت إلى لبنان للمرّة الأولى بصفة مراسلة من جريدة «الاتّجاه» الأردنية لتغطية أمسية موسيقيّة يحييها قعبور. وكان أوّل سؤال تطرحه عليه «حلوة حيفا»، فأجابها بعد أن غنّى «لاجئ سموني لاجئ طالع نازل على الملاجئ»، «حيفا حلوة كثير، شفتا بعيونك، خليها نابضة». بقيت كلمات قعبور «تنبض» في قلب ميرا، إلى أن قرّرت منذ ثلاثة أشهر، بعد أن ضاقت ذرعاً بها، تحويلها إلى الورق رسومات وصوراً وأشعاراًواستعانت في تنفيذها بصديقتيها في كلّية الآداب وجارتيها في الوقت نفسه دلال ترحيني وزهى اللتين تعيشان المعاناة نفسها، هي المنفيّة عن وطنها ودلال وزهى المنفيتين في وطنهما.
عملت الصبايا ثلاثة أشهر متواصلة في منزل ميرا «تحت سقف الزينكو تارة، وفي الأحياء الفقيرة والمخيّمات طوراً آخر»، واستعنّ خلالها بأياديهن ومصروف الجامعة ومساندة قعبور، من أجل إطلاق التجربة الأولى. فكان معرض «نبض» الذي تمكّنت الصبايا، بتوصية من بعض الأصدقاء من احتجاز قاعة لـ«فشّة الخلق» في قصر الأونيسكو على مدى ثلاثة أيّام.
ميرا التي اختارت فلسطين موضوع «فشّة الخلق»، حجزت لها ثلاث لوحات من المعرض بالأبيض والأسود تتحدّث عن «أرض الأقصى». حوّطت ميرا رسوماتها بأيادٍ تنزف دماً «من الشهداء وحنظلة المنتظر في بيروت وفي الأردن وفي عين الحلوة... ». رسمت أيضاً جدار مخيّم البرج في «المنفى» وبلدتها الفلسطينية التي لا تعرفها، والتي «س...تعود إليها يوماً». كما لم تنس ميرا أن تحجز لوالدتها حيّزاً في المعرض بعد «قلبي»، وصوّرتها كما تريدها «حاجّة كبيرة بتحمل على راسها ميّ، لأنها حدا عطشان، خايف ومجنون بفلسطين»، وجزءاً آخر من تلك اللوحات لـ«نفسي وأحلامي العارية وحقائقي العارية...ألسنا كلّنا عراة».
أمّا دلال (طالبة في كلّية إدارة الأعمال) فرسمت «فشّة خلق»، لكن ليس من فلسطين، بل من السجن الذي تعيشه بين والدين «لا يفهمان لغتي»، ومن أشخاص «يخفون الحقد خلف الأقنعة». تحاول دلال إخراج معاناتها التي تدخل في هذا اليوم عامها العشرين بالكثير من الألوان وبالإكثار أيضاً من القضبان الحديدية «ليرى الناس ما أنا عليه»، كما رسمت وجهها في وجه السيّدة المحصورة داخل الزجاجة ورسمت في المقابل الفتيات الراقصات والطفولة التي لم تعشها والتي تطمح اليوم لاستعادتها.
أما زهى، اللبنانيّة الأخرى التي تسكن في بيروت «الدرجة الثانية» حيث البؤس والفقر، فلم تقتنع بخيار زميلتيها واختارت التصوير «الذي يرسم الواقع كما هو»، فصوّرت بعدستها «ما يسموّنهم بشراً» في حي السلّم، مكان إقامتها، وبرج البراجنة، وكذلك ما يحمله قلبها من الخوف والبؤس والتشاؤم. لكنّها تجد نفسها إلى الآن غير راضية عمّا نفّذته، «فهناك الكثير من أنواع البؤس تحتاج إلى أعوام لتجسيدها».