جان عزيز
الأمر بات مؤكدا: في 17 ايار المقبل، يخرج جاك شيراك من قصر الأليزيه. الى أين؟ الاحتمالات القاتمة ممكنة. فالملفات كثيرة. خصوصا بعد اقرار الجمعية الوطنية قانونا يسمح بملاحقة رئيس الجمهورية بعد انتهاء ولايته. وبعد سلسلة الكتابات التي تناولت سيرة الأعوام الخمسة والأربعين التي قضاها شيراك في الشأن السياسي، منذ دخوله مكتب جورج بومبيدو، سنة 1962، بعد ثلاثة أعوام على تخرجه من «المعهد الوطني للادارة»، في المرتبة السادسة عشرة في صفه، سنة 1959.
الى أين يذهب شيراك؟ بعض معالم الجواب يعود الى البحث في تمويل حملاته الانتخابية، والكلام عن رحلات أموال نقدية، حملتها «طائرة خاصة» الى مطار فرنسي، يوم كان ساركوزي نفسه وزيرا للمالية. وبعضها الآخر يعدد المعلن من «الملفات»: بطاقات السفر العائلية المدفوعة نقدا، شقق العاصمة الشعبية، وظائف حزبيين على نفقة المال العام، رحلة اليابان المواسية، على متن «الطائرة الخاصة» نفسها، بعد سقوطه في انتخابات 1988، وغيرها. لكن الأكيد أن شيراك لن يذهب الى الجانب المضيء من ذاكرة المسيحيين في لبنان. وقد يكون شيراك أصاب حقا في معالجة مسيحيي لبنان، من آخر أوهامهم الساقطة مع «لبنانهم» المتداعي. غير أنه تعامل مع «مرضاه» على طريقة الصدمات المتتالية.
فمنها ما رواه إيريك إيشمان وكريستوف بولتانسكي في كتابهما الأخير،«شيراك العرب»، وفيه أن مدير مكتب شيراك، عمدة بلدية باريس في حينه، برنار بيو، كان يحاول دوما حث رئيسه على مناصرة قضايا مسيحيي لبنان، فيجيبه رئيسه: «هؤلاء الناس تركوا بلدهم، إنهم لا يفكرون إلا بالمال». ويضيف الكاتبان أن مساعد شيراك لا يزال يحتفظ ببطاقة دعوة وجّهت الى الأخير للمشاركة في قداس من أجل الموارنة، وهي مذيّلة بكلمات بخط شيراك تقول: «للأسف! لقد تغيّرت الأزمان. لم يعد هناك مسيحيون ومسلمون، لا أخيار ولا أشرار. هناك كواسر يتناتشون لأسباب الطموحات الشخصية والمصالح المالية (...) في النهاية أريد المشاركة في قداسك باسم المبادئ الكبيرة، فرغم كل شيء، لا نزال نحتفل بموت لويس السادس عشر».
ومن تلك الصدمات ما رواه ريشار لابيفيير في كتابه «الانعطاف الكبير» عن جوهر اتفاق شيراك مع جورج بوش قبل عامين: أن يحكم لبنان، نجل صديقه الراحل رفيق الحريري.
وقد يتعزى مسيحيو لبنان حيال تلك الصدمات، بما خلص اليه الصحافي الفرنسي، فرانز - أوليفييه جيزبيرت، في كتابه الأخير، «مأساة الرئيس». اذ يصف ساكن الأليزيه في الأعوام الاثني عشر الماضية، بأنه «كذاب كبير». ويشرح قدرته الكاملة على الكذب، وهو ينظر مباشرة في عيني مخدوعه...
غير أن هذه التعزية لن تكفي لينسى المسيحيون يوم وقف شيراك في ساحة النجمة في 4 نيسان 1996، متحدثاً عن رهانه، هو أيضاً، على ربيع السلام الآتي: «فرنسا تأمل أن تكون سنة 1996 حاسمة ومقرونة باقرار الاتفاقات بين اسرائيل وسورية، وبين اسرائيل ولبنان». ليكمل صدمته لمعارضي الوجود السوري، بالتأكيد أن هذا السلام «وحده ما سيسمح للقوات السورية بالانسحاب». ولا دأبه على ضرب مطالب السياديين اللبنانيين. فهو تجاهل اقتراب «نفي» ميشال عون من نهاية مدته، مؤشراً الى التزامه مواصلة تلك الخطوة التعسفية، كيدا ربما بفرانسوا ميتران الذي ربط شرف فرنسا بحرية عون. وحين سئل في لقائه الشباب اللبنانيين عن سمير جعجع واعتقاله تحت الأرض، جاهر وريث ثورة الباستيل بثقته بالقضاء اللبناني يومها، مؤكدا عدم تدخله في «شأن قانوني»، كان قد تحول قضية يومية لكل المدافعين عن حقوق الانسان. ولن ينسوا عودة شيراك الى بيروت في 30 أيار 1998 مكرراً المواقف نفسها، قبل أن يستقبل الرئيس حافظ الأسد في الاليزيه في 16 تموز 98 بحفاوة استثنائية.
وظل البعض من متوهمي النوستالجيا الديغولية، يراهن على أن هذا الموقف الشيراكي انما الهدف منه الوصول الى انسحاب اسرائيلي، يسمح بعده بخروج دعوة فرنسية واضحة الى جلاء سوري كامل عن لبنان. لكن أنجز التحرير في أيار 2000 وأعلنت بكركي نداءها في أيلول، واستعرت المواجهة بين المعارضة اللبنانية واميل لحود، ليحل الأخير وسط هذه الأجواء بالذات، ضيفاً مميزاً على قصر الاليزيه في «زيارة دولة»، هي الثانية لرئيس لبناني بعد استضافة شارل ديغول لشارل حلو قبل 3 عقود ونيف.
والاحباطات نفسها حملها شيراك مجدداً الى بيروت، لمشاركته في القمة الفرنكوفونية بعد عام ونيف. يومها كان الاسرائيليون قد مضى عامان على جلائهم، وكانت واشنطن قد أطلقت «قانون محاسبة سورية واستعادة السيادة اللبنانية»، ليقف شيراك في ساحة النجمة مجدداً في 17 تشرين الأول 2002، مشيداً «بالسلام اللبناني المتحقق»، ومؤكداً مرة أخرى بأن "التطور نحو السلام المأمول، سيسمح للبنان وسورية بتناغم علاقاتهما، ويؤدي الى الانسحاب الكامل للقوات السورية من بلادكم، وفق اتفاق الطائف»، المتأخر استحقاقاً 10 أعوام كاملة.
ما الذي غيّر جاك شيراك قبل التمديد وقبل اغتيال صديقه رفيق الحريري؟ روى عبد الحليم خدام في حديثه التلفزيوني مطلع السنة الماضية، ان أول التغيير في الموقف الفرنسي، كان مرتبطاً بعقد شركة «توتال» الذي رفضته دمشق. وخدّام «شاهد ملك» في هذه القضايا. وهو يعرف الرئيس الفرنسي الذي قال مرة مدافعاً عن نفسه: «لست حقوداً ولا فاقداً للذاكرة».
في 17 أيار المقبل، ستكون غالبية مسيحية من الرأي نفسه: لا حقد طبعا، لكن لا فقدان للذاكرة قطعا. وبين الاحساسين، سيظل هاجسهم السؤال: ذهب شيراك، متى تعود فرنسا؟