strong>رنا حايك
  • رمزي حيدر: عشت الفقر والحرمان وأدرك فرحة الطفل بالآلة - اللعبة

    يجول ستة مصوّرين محترفين، منتسبين ومتطوعين
    في جمعية «ذاكرة»، على المخيمات الفلسطينية في لبنان منذ شهر. يوزّعون الكاميرات على الأطفال ويعلّمونهم أصول فن التصوير أملاً في إضفاء بعض البهجة على أيامهم، والمزيد من التنوّع على خياراتهم المهنية المستقبلية


    يتحلّق ثلاثون طفلاً حول طاولة مستديرة في مركز «الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية» في مدينة صور المحاذي لمخيم المعشوق. تجلس إلسي حدّاد بينهم وبيدها الكاميرا التي لا تفارقها نظراتهم. تدوّن الأسماء وتبتسم باستمرار محاولة كسر حاجز الخجل الذي اعتراهم مع دخولها وزملاءها المصوّرين حضانتهم الهادئة.
    «من منكم صوّر من قبل؟ وماذا صوّرتم؟» تسأل إلسي. يتهامس الأطفال ويتضاحكون مرتبكين. أحمد، أجرأهم، يبادر إلى الإجابة: «صوّرت في عيد ميلاد أخي». تتحمّس نور، الطفلة المحجبة التي تبلغ العاشرة من عمرها: «مرّة صوّرت ستي». بعضهم يتحرّر من الارتباك، ويمارس دور «عفريت» الصف فترتفع الأصوات في هرج ومرج جانبيبن. يشعر مصوّر «أ ف بي» رمزي حيدر بأن عليه استعادة انتباه الجميع، فيمارس دور الأستاذ ويقول بجديّة: «جئنا نعطيكم فرصة للتعبير عن رأيكم في ما يحيط بكم من خلال الصورة. صوّروا الأشياء التي تحبونها أو التي تكرهونها في المخيم».
    يتناوب المصوّران بلال جاويش ومروان طحطح على شرح كيفية استخدام الكاميرا للأطفال الذين تراوح أعمارهم بين السابعة والثانية عشرة: «الماء عدوّ الكاميرا الأول. الضوء يحرق الصورة إذا واجه العدسة. يجب التأني وتثبيت اليد قبل الضغط على زر التقاط الصورة...»
    تسري حالة من الحماسة في أبدان الأطفال يعجزون عن كبتها، يتململون في انتظار وصول الدور إليهم لالتقاط الكاميرا التي تدور على الطاولة.
    في هذه الأثناء تعود إلسي إلى محادثتهم: «شو حابّين تصيروا بس تكبروا؟» وتحمل الإجابات مدلولات قاسية: هذا أحمد يريد أن يصبح «لحّاماً» كعمّه، يحب ذبح الخواريف. وحسن يريد السفر إلى ألمانيا ليعمل مع خاله، تاجر السيارات. أما الفتيات، فكلهن يردن أن يصبحن مدرّسات. يتدخّل رمزي: “أما الآن فقد بات بإمكانكم التفكير أيضاً في أن تصبحوا مصورين إذا أحببتم التجربة التي سنجريها معاً من خلال مشروع لحظةهذا المشروع، الذي بدأت جمعية مهرجان الصورة «ذاكرة» بتنفيذه منذ نحو شهر، سيتيح لخمسمئة طفل من المخيمات الفلسطينية أن يحملوا الكاميرا للمرة الأولى في حياتهم، ربما، ويلتقطوا صوراً تلخّص واقعهم. سيكون بوسعهم، هم الذين لطالما مثّلوا موضوع الصورة الصحافية والفيلم الوثائقي لعقود، صنع الصورة بأنفسهم وعن أنفسهم. بعضهم سيترك الكاميرا بعد حين، وبعضهم قد لا يتركها أبداً إذا اكتشف فن التصوير واكتشف المصوّرون الذين يشرفون عليه موهبته.
    أسباب كثيرة تقف خلف فكرة المشروع كما يقول صاحبها، ورئيس جمعية ذاكرة رمزي حيدر: «لأن قضيتهم إعلامية بالأساس، ولأنهم تربّوا على تراكم الصور التي يستحضرونها من ذاكرة أهاليهم عن الوطن المفقود والتي يشاهدونها على شاشات التلفزيون وفي الجرائد ويشهدون على صنعها يومياً في أزقّة المخيم، وأيضاً لأنني عشت الفقر والحرمان وانتظرت الأعياد لأحصل على ثياب جديدة، أدرك فرحة الطفل المحروم بالآلة- اللعبة الممتعة».
    رمزي، المصوّر المحترف الذي سخّر حياته لنقل الواقع بأمانة، هو أكثر من يدرك أهمية الكاميرا كسلاح في يد أطفال المخيمات. هذا الإدراك جاء على مراحل كما يقول لنا: «راودتني الفكرة عندما كنت أصوّر يوميات إسقاط النظام البعثي في العراق، يومئذ سقط الرئيس العراقي صدام حسين وغرقت بلاد الرافدين في دوامة العنف والعنف المضاد». فكّر رمزي حينذاك في أطفال العراق، لكن الحرب التي ذهب ضحيتها الكثير من الصحافيين ونشرت الرعب في شوارع المدينة جعلته يستبعدها. «في ظلّ حالة من التوجس من أي وسيلة لأرشفة الحاضر، بدا تزويد الأطفال بكاميرا ضرباً من الجنون».
    «جنون» لم يجد مكاناً لممارسته إلا في المخيمات الفلسطينية في لبنان. فتركيبة المخيمات وتآلف سكّانها مع الكاميرا والصورة سهّلا تنفيذ المشروع الذي بدا مستحيلاً في مختلف المناطق اللبنانية «المشحونة بالتدابير الأمنية والتوجس من آخر متربّص مجهول ودائم التهديد». وبلغت حماسة الجمعية للمشروع حدّ تحمّل تكلفة الكاميرات كاملة من دون الاستعانة بأي تمويل خارجي حتى هذه اللحظة، إضافة إلى استثمار جهود الأعضاء ووقتهم من خلال التطوع لتنفيذهبدأ المشروع في الجنوب، حين تطوّع ستة مصورين محترفين لزيارة مخيمات الرشيدية والبصّ والبرج الشمالي. وبالتنسيق مع «الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية» جرى ترتيب الجولات واللقاءات بالأطفال في المراكز التابعة للاتحاد. وعمد المصورون خلال هذه الجولات إلى التعرف بالأطفال الذين تراوح أعمارهم بين سبعة أعوام واثني عشر عاماً، ويوضح رمزي سبب اختيار هذه الشريحة العمرية «لأن الأطفال في هذه السن يستطيعون التعبير عن أحلامهم وهواجسهم ومشاعرهم الخاصة ببراءة وصدق وعفوية».
    تمتد اللقاءات مع الأطفال ساعات طويلة يشرح خلالها المصوّرون مشروعهم بشكل مبسّط، يستمعون إلى قصص الأطفال ورواياتهم عن واقعهم وظروف حياتهم في المخيم. كما يحاولون تنمية إحساس الأطفال بالصورة من ناحية جمالية وتوجيههم لإدراك أهمية استخدام الصورة كوسيلة للاتصال والتعبير من دون الوقوع في فخ تلقين مفهوم المصوّر الخاص ورؤيته الخاصة عما ينتظره من الطفل.
    ويجري خلال اللقاءات اختيار نحو سبعة وعشرين طفلاً من كلّ مخيم، بناءً على رسوم يطلب منهم تنفيذها لاختبار قدراتهم الإبداعية ومواهبهم الكامنة. تقوّم هذه الرسوم لجنة مكوّنة من مصورين ورسامين واختصاصيين في علم الاجتماع وسينمائيين تختار منها ما ترى أنه ينمّ عن الموهبة الأقوى في التقاط الفكرة والخطوط الفنية.
    يقول رمزي إن هذا المشروع سيستمر خلال الأشهر الستة المقبلة، سيجول خلالها المصّورون على كلّ مخيّمات لبنان، وعند اختتامه «سيتم اختيار مئة صورة لعرضها في لبنان وفي الخارج ونشرها في كتيّب على أن تعود إيرادات المعارض وبيع الكتيّب مباشرة إلى الأطفال الفلسطينيين من خلال خلق مشروع ثقافي لهم تحدد معالمه لاحقاً بالنظر إلى الحقائق والاحتياجات».
    كما اكتشف الروائي الفلسطيني غسان كنفاني ناجي العلي من رسومه الكاريكاتورية المنتشرة على جدران مخيم عين الحلوة، يحلم رمزي حيدر في اكتشاف مواهب جديدة صافية تبدأ مسيرتها مع فن التصوير من النقطة الأصلية: الكاميرا الرقمية. هذا في ظل تقدّم تكنولوجي «أضرّ بأصول المهنة حين استدرج الكثيرين من مستخدمي الكاميرا الديجيتال المحترفين إلى التلاعب بالصورة وتركيب اللقطة».


    ولادة «ذاكرة»

    تأسست جمعية مهرجان الصورة «ذاكرة» في شباط- فبراير 2007. وهي جمعية ثقافية محلية تضمّ مجموعة من المصوّرين والفنيين. اكتشف رئيسها رمزي حيدر، المصوّر في «وكالة الصحافة الفرنسية» والمسؤول عن «اتحاد المصوّرين العرب» في لبنان، أنه لا يستطيع تنظيم أي مشروع أو أي نشاط من دون التظلل بها: «العمل على الأرض لا يقابل بجدية إذا اقترحه فرد. يجب أن تقترح النشاط جماعة تعمل تحت اسم وتحت مظلة مؤسّساتية حتى يتم أخذها على محمل الجد».
    نتيجة لذلك، ولتنفيذ مشروع «لحظة»، بدا تأسيس الجمعية ضرورياً، فأودع رمزي العلم والخبر في وزارة الداخلية اللبنانية وبدأت الجمعية نشاطها فوراً.
    يتنوع الأعضاء المؤسسون التسعة بين مصورين محترفين (رمزي حيدر، طلال عبد الرحيم، باتريك باز، أنور عمرو وألسي حداد)، محامية (أمل تقي الدين)، صحافية (نايلة رزوق)، إعلامي (عصام دكروب)، ومهندسة (منى حلاق).
    ويتألف فريق المتطوعين لتدريب الأطفال في المخيمات من ستة مصوّرين حالياً (رمزي حيدر، إلسي حداد، بلال جاويش، مروان طحطح، محمد همدر وسمر كعدي) سيزداد عددهم مع توسّع النشاط في المخيمات المنتشرة في مختلف المناطق اللبنانية.
    جمعية “ذاكرة” هي جمعية مستقلة، لا تتلقى أي تمويل خارجي، لكن أعضاءها يراهنون على عدوى الحماسة التي يأملون نقلها إلى كل فرد أو جهة تشعر بأن لديها ما تقدمه للمساهمة في إتمام هذا المشروع. ويمكن التواصل مع الجمعية من خلال البريد الإلكتروني: [email protected]