أنطوان سعد
يتزامن تجدد الكلام على إعادة الاعتبار إلى الدور المسيحي في المعادلة السياسية اللبنانية مع بدء الجولة الثالثة من المشاورات بين المعارضة والموالاة بعد اجتماعات «طاولة الحوار» و«جلسات التشاور» في ساحة النجمة. وخصوصية هذه الجولة أنها تتم بين قطب أساسي في المعارضة، رئيس مجلس النواب نبيه بري، وبين قطب الموالاة الأساسي، رئيس كتلة «المستقبل» النائب سعد الدين الحريري، في غياب أي وجه سياسي مسيحي.
واللافت أن أحداً من الأطراف المسيحية المتحالفة مع بري أو مع الحريري، لم يبد معارضة أو استياء لهذا الاستبعاد، باستثناء النائب نعمة الله أبي نصر، باعتبار أن المواضيع متفق عليها داخل كل من الجبهتين، وأن الثقة متوافرة بين القوى المتحالفة ولا حاجة لتمثيل طائفي يحفظ الشكل وأدبيات الحياة السياسية اللبنانية. وتشير أوساط مراقبة إلى أن جلسات التشاور والحوار التي كان حضور القيادات المسيحية فيها كبيراً ويفوق عدد القيادات غير المسيحية، لم تتطرق بدورها إلى مسألة الدور المسيحي، ولم تثمر عن أية نتيجة عملية ملموسة على هذا الصعيد. ولا يمكن بالتالي الاعتبار أن تمثيل القيادات المسيحية في مشاورات الجولة الثالثة سيؤدي إلى معالجة الخلل الطائفي القائم منذ أكثر من عقد ونيّف.
لذلك، تعتقد هذه الأوساط أن تعزيز الحضور المسيحي في المعادلة اللبنانية لن يتحقق ما لم تتمكن القوى السياسية المسيحية من فرض نفسها في هذه المعادلة، وخصوصاً أن هذا «الفرض» قد يشكّل مخرجاً للقوتين المتنازعتين المتحصنتين وراء تحالفاتهما المحلية والإقليمية والدولية، واللتين لا تبدوان مستعدتين للتنازل عما تعتبره مكتسبات خوفاً من أن يشكل التخلي عنها نقطة قوة للخصم يمكن أن تستخدم ضدها في النزاع الدائر بينهما الذي يبدو مفتوحاً على كل الاتجاهات. وبذلك يكون الدور المسيحي الفاعل عامل استقرار بينهما بعدما بلغ عدم الثقة المتبادل درجة مقلقة تنذر بأوخم العواقب. فتتحول إذّاك الحصة المسيحية المتنازع عليها في رئاسة الجمهورية ومجلسي النواب والوزراء إلى صمام أمان يمتص المناخات الإقليمية المذهبية المتأججة ويفرض إيقاعاً يستوعب التناقضات ويمنعها من التصادم.
أما مفتاح هذا التغيير فيمسك به في شكل أساسي رئيس تكتل الإصلاح والتغيير العماد ميشال عون، باعتباره الحائز على النسبة الأكبر من ثقة الناخبين المسيحيين في الانتخابات النيابية الأخيرة. ولكن بدل أن يصر على أن يكون المرشح الأول لانتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة، عليه من أجل تعزيز الدور السياسي للمسيحيين وإيجاد مخرج للأزمة القائمة منذ أشهر، أن يقبل بما يمكن اعتباره تضحية كبيرة منه، وهو المبادرة إلى الدعوة لبدء مشاورات مع سائر القيادات المسيحية برعاية البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير في بكركي، للتفاهم حول أمرين: اختيار الوزراء المسيحيين المرشحين لدخول حكومة الاتحاد الوطني، ومرشح واحد لرئاسة الجمهورية. ومن ثم الاتفاق على وسيلة للتفاهم مع الموالاة والمعارضة حول طريقة تأليف الحكومة وإجراء الانتخابات الرئاسية. ذلك أن القوى المسيحية المنضوية في إطار الرابع عشر من آذار، وبغضّ النظر عمّا إذا كانت محقة أو غير محقة في موقفها، مجمعة على الرفض في شكل قاطع لوصول العماد عون إلى سدة الرئاسة الأولى، وطالما أن هذا الأخير مصرّ على ترشيح نفسه فسيبقى مرشحاً ضعيفاً، أما إذا ارتضى الانسحاب فسيصبح الناخب الأقوى، والزعيم المسيحي الأقوى في العهد المقبل.
يقابل أنصار الجنرال عون هذا الطرح بالقول إن كل طائفة اختارت ممثلها الأقوى لتولي المنصب المخصص لها في رئاسة مجلسي النواب والوزراء، وإن المنطق يشير بانتخاب عون رئيساً للجمهورية لإعادة التوازن المفقود. غير أن مراجعة لتاريخ لبنان منذ الاستقلال، تظهر أن معظم رؤساء الجمهورية كانوا «من المعتدلين» الذين لم يكونوا متمتعين بالشعبية الأولى في الأوساط المسيحية، في حين أن معظم رؤساء الحكومة والمجلس النيابي كانوا من الأكثر تمتعاً بتأييد الطائفتين السنية والشيعية. ويشبه وضع العماد عون اليوم وضع رئيس حزب الكتائب بيار الجميل في الانتخابات الرئاسية سنة 1964. حينذاك، حاول الجميل إقناع المحيطين بالرئيس الراحل فؤاد شهاب دعمه لخلافة الجنرال، لكن هذا الأخير إضافة إلى فريقه الأساسي، اعترضوا في شكل قاطع، معتبرين أن «اليوم الذي ينتخب فيه كتائبي رئيساً للجمهورية يبطل لبنان أن يكون لبنان».