جان عزيز
13 سنة، ناقصة 13 يوماً، تفصل بين انفجار كنيسة سيدة النجاة في 27 شباط 1994، وانفجاري عين علق في 13 شباط 2007. ما الذي يجمع بين الجريمتين؟ قاسم مشترك واضح، عنوانه كيف لسلطة سياسية أن تقارب جريمة واقعة، وأن تتعامل مع وقائعها، الحقيقية أو المتخيّلة، الموضوعية أو المفبركة والمختلفة، في شكل يخدم مشروع السلطة وخطابها وأشخاصها.
قبل 13 عاماً، دوّى الانفجار صبيحة ذلك الأحد المشؤوم، على مذبح في ذوق مكايل. قبل أسابيع من الجريمة كان ثمة موقوفان لدى النظام الأمني، قد تحدثا عن احتمال وقوعها. وكانت بكركي قد اطلعت على القضية. وكانت الكنيسة نفسها قد ذكرت في تحقيقات أولية اختفت. وكان ثمة أصوليون سُنّة قد أعلنوا رفضهم زيارة البابا الى بيروت، وأتراب لهم قد نفذوا جريمة تفجير البلمند... ورغم ذلك كله قرر النظام الأمني أمراً مخالفاً: تطوع وليد جنبلاط للمبادرة، وجّه اتهامه الى سمير جعجع، وكرت المآسي.
بعد 13 عاماً دوّى الانفجار في ذلك الصباح المتني الدامي. قبله بثلاثة أشهر كان ثمة موقوفان من «فتح الإسلام» لدى النظام الأمني الجديد، أحدهما سوري اسمه محمد صالح سالم، وثانيهما سعودي يدعى حسام محمد صيام. وكانت التسريبات قد تحدثت عن «اعترافاتهما» بالتحضير لأعمال إرهابية. قبل ان يكتم الموضوع بلا ادعاء واضح ولا محاكمات ولا أصول جزائية، ولا علانية دفاع وعدالة ونتائج .
وقبل الانفجار الثاني بيوم واحد، كان مسلحون من «فتح الإسلام» نفسها، يعتقلون ثلاثة عناصر من قوى الأمن الداخلية في مخيم نهر البارد الشمالي.
صادروا الآلية، احتجزوا العسكريين، ثم أطلق سراحهم، من دون ان يتساءل الناس عن العلاقة بين مرجعيتي القوتين سياسياً، وبين «الحل الحبي» للحادثة.
بعد الانفجار في عين علق، كتب سيمور هيرش بحثه الشهير، ونشره في 25 شباط الماضي، مسمياً «فتح الإسلام» بالذات، ومتهماً، الحكومة ومن وراءها من قوى إقليمية ودولية بتمويلها وتسليحها، في سياق حديثه عن «إعادة توجيه» السياسة الأميركية في المنطقة، في اتجاه دعم القوى الأصولية السُّنيّة لتطويق المد الشيعي، وخصوصاً في سياق تأكيده أن هذه السياسة بلغت حد تنفيذ عمليات سرية في لبنان.
لم يتأخر الرد على تلك القراءة. كأن في بيروت من فكّر في إعادة توجيه «إعادة توجيه» هيرش نفسها. تلقّف التهمة وردّها كما هي، صوب الخصم. «فتح الإسلام» متهمة بتنفيذ جرائم لصالح السلطة، ليكن الجواب إن «فتح الإسلام» مقبوض عليها بالجرم المشهود، والموجّه ضد أعداء السلطة... لكن تبقى التفاصيل، حيث الشيطان.
في التفاصيل تلك، تبرز الملاحظات الكثيرة وتغزر، ومنها:
1 ــــــ متى يصدر بيان رسمي عن السلطة القضائية المختصة، يحدد أسماء الموقوفين وتواريخ توقيفهم، ومدى احترام الأصول المرعية في ذلك، ومنها سريان مهل التوقيف الاحتياطي والادعاء وحضور وكلاء الدفاع عن المعنيين؟
2 ــــــ لماذا سجّل غياب قيادة الجيش عن الاجتماع الحكومي الذي خصص للإعلان عن القضية، ولماذا سجّل حرص «المعلومات الرسمية» على الذكر أن فؤاد السنيورة لفت إلى اجتماع سابق شارك فيه ممثلون عن الجيش؟
3 ــــــ كيف تبنّت المعلومات شبه الرسمية رواية استهداف 36 شخصية لبنانية، وهي رواية كانت قد نشرتها صحيفة تابعة للسلطة في 29 تشرين الثاني 2006، أي قبل أشهر من التوقيفات والاعترافات؟
4 ــــــ كيف توفّق الرواية الرسمية بين تأكيدها ارتباط المجموعة الموقوفة بحركة «فتح ــــــ الانتفاضة»، وتأكيد المسؤولين الفلسطينيين «الموالين» للسلطة اللبنانية، منذ نشوء «فتح الإسلام»، أن الأخيرة انشقّت عن الأولى؟
5 ــــــ كيف تفسّر السلطة كون قائد الجهة المتهمة، شاكر العبسي، سجن في سوريا ولم يسجن في الأردن «الحليف»، وقاتل في نيكاراغوا ولم يقاتل في العراق؟
6 ــــــ كيف تشرح الجهات الرسمية هذه المصادفة الغريبة في توقيت الإنجاز الأمني، في شكل متزامن مع ثلاثة مسارات: عودة الاتصالات بين سوريا وبعض الجهات العربية والغربية، تقدم مفاوضات التسوية للأزمة اللبنانية في ظل الحديث عن استياءات وامتعاضات ومتضررين، والاستعدادات لصدور التقارير الدولية في قضايا اغتيال رفيق الحريري والقرارين 1559 و1701؟ علماً أن الحديث عن الاستعجال في الكشف الرسمي عن القضية، بسبب تسريب إعلامي كان قد بدأ يتسلل، يطرح على السلطة إشكالية إضافية. ذلك أن أول التسريبات جاء عبر الصحافة الفرنسية بالذات، مع ما لهذه الجهة من «علاقات مميزة» بسلطة بيروت...
وتطول لائحة الأسئلة. هل تنتهي إلى استنتاج بتلفيق وتركيب؟ طبعاً لا، فتجربة المحاكمة في تفجير سيدة النجاة كافية للتأكيد أن الخيوط الحقيقية للوقائع الموضوعية تظهر من بين كل أقنعة الأنظمة الأمنية. وخير دليل على ذلك مرافعة النائب السابق جورج نجم، محامياً عن جرجس الخوري الضحية الدائمة، قبل السجن وبعده.
يبقى احتمال متروك لمفارقة التاريخ، أن تكون الجهة التنفيذية نفسها وراء الحدثين، وأن تكون قد بدّلت «رب عملها» بعد 13 عاماً، عندئذ تكون «إعادة توجيه» هيرش، قد استنبطت معنى ثالثاً لم تقصده.