strong>بيسان طي
  • القلق والكوابيس حالات منتشرة وعلم النفس يعوّل على الحلّ السياسي للأزمة
    “الحل يلوح”...“لا حل في الأفق”. هذا ما يطالع به السياسيون المواطنين كل صباح. فيغرق اللبنانيون في قلقهم وتنقل وكالات الأنباء العالمية صور الإقبال اللبناني المتجدّد على أدوية المهدئات. الأسئلة عن حالات القلق كثيرة، يجيب عنها محللون ومعالجون نفسيون وأعضاء جمعيات متخصصة، داعين إلى التفكير في حلول لها

    يقف البائع وسط متجر الأحذية في شارع الحمراء، يجيب بأن سعر الحقيبة 200 دولار وأنه لا يريد أن يبيع شيئاً. تحاول الزبونة أن “تمتص” الصدمة، تبتسم، تذكّره بأنها من رواد متجره، يحدق فيها لثوان، يتذكرها لأنها تقصده مرتين في الشهر على الأقل، يصمت قليلاً ثم يرد “أهلاً بك، أنت غالية علينا، السعر سنبحثه”، تنفرج أساريرها، يتناول آلة حاسبة، يعلن المبلغ الجديد المطلوب “250 دولاراً، السعر تضاعف بتضاعف أدوية القلق التي أتناولها، إن كنت تريدين الحقيبة بسعر معقول عودي في يوم لا نسمع فيه أخباراً سيئة”.
    في صيدلية عند كورنيش المزرعة تلتقي الجارتان ريما وسهام، تتبادلان النظرات لكنهما لا تتبادلان الحديث عملاً بأصول القطيعة التي وقعت بينهما منذ بدأت المعارضة اعتصامها. مساء ذلك اليوم نعتت سهام قادة المعارضة بأبشع النعوت فردت عليها ريما واصفة قادة 14 آذار بأمراء الحرب وألصقت بهم صفات لا تليق بالبشر.
    في الصيدلية، كانت كل واحدة منهما تنتظر أن تتقدم الثانية بطلب ما تريد لتنفرد هي بالبائع وتشرح حالتها من جديد. وبعدما وقفتا لدقائق من دون الادلاء بأية كلمة، اقترب البائع وقال: لم يعد عندي أدوية مهدئات! فخرجتا.
    أما أم بهاء في الضاحية، فباتت تخجل من طرد جاراتها، اللواتي أكثرن من زيارتها في الفترة الأخيرة ليروين لها الكوابيس التي جعلت لياليهن سوداء ويطلبن تفسيراً لها. في البداية كانت أم بهاء تتناول كتاب “تفسير الأحلام” وتروح “تفسّر” لجاراتها معاني كوابيسهن ثم تتلو الآيات القرآنية وتستغفر الله وتتمنى “هدوء البال” للجميع. لكن السيدة الستينية تعبت بدورها وباتت تقصد الطبيب والصيدلي بحثاً عن علاج لقلقها الدائم بعدما صارت تحلم بكوابيس جاراتها.

    غلبة التشاؤم

    في كل حارة لبنانية عشرات القصص المشابهة: كوابيس ومطاردات لأصحاب الصيدليات حيث “الحل السحري” ضد الأزمة أي أدوية المهدئات. الوضع مقلق وإن بدت بعض القصص مضحكة. فقد لفت نقيب الصيادلة صالح دبيبو إلى ازدياد تعاطي الأدوية المهدئة بين عامي 2005 و2006 بشكل لافت.
    دبيبو قال إن التكافل والتضامن بين أفراد الشعب اللبناني كان منطقياً خلال حرب تموز، لكن الوضع الداخلي المتوتر زاد القلق، ولذلك لوحظ ازدياد نسبي في تناول الأدوية المهدئة خلال الأزمة الحالية، وإن لم تظهر بعد الأرقام التي توثق لهذه الزيادة علمياً. والحل برأيه لن يكون طبياً “الحل سياسي: عندما تستقر الأوضاع في البلاد ينخفض منسوب القلق”.
    لم تنشر دراسات عن هذه الظاهرة لكن الدكتورة إيميه كرم تحدثت عما “نراه” مؤكدة أن “نسبة القلق وعدم الاستقرار والتقلّبات المزاجية تزداد، وهذه ظاهرة طبيعية لأن الأوضاع غير المستقرة تجعل المرء يشعر بصعوبة كبيرة في اتخاذ القرارات والتخطيط لحياته”.
    تشرح كرم الظاهرة بالقول إن نظرة متشائمة تغلب على المرء في المرحلة الأولى من فترات التجاذبات وعدم الاستقرار السياسي، فتزيد قابليته لتصديق الشائعات التي تروح تنتقل كالعدوى، و“يميل السلوك الاجتماعي إلى منحى عدم التأكد من المعلومات المتداولة، قليلون يحاولون أن يقرأوا وأن يبحثوا عمّا وراء الخبر، فيما يغوص الآخرون في ردة فعل هي نوع من القلق المزمن ويعيشون في حالة تأهب للدفاع كأن الخطر واقع لا محالة”.
    وتلفت كرم إلى أمر ثان خطير وهو أن “قدرة المرء على التسامح تتناقص في فترات التشنّج والتجاذبات، حيث ترتفع درجة الانفعال لدى المواطنين. ويتضاءل الشعور بالمسؤولية عندما ينضم المرء إلى مجموعة ليقوم مع أفراد آخرين بأفعال وأدوار معينة”. عندها يندمج المرء في الدور الموكل إليه، فيعيش في شخصيته الجديدة متناسياً شخصيته الحقيقية وفق ما بيّنت الدراسات. الباحثون عن انتماء ما يستفيدون من الأدوار الموكلة لهم، فهم أحياناً أشخاص يعيشون بلا عائلاتهم، ولا يملكون أية موهبة أو قدرة على تأدية فعل جاد، يطيع هؤلاء أصحاب النفوذ القوي ويفرحون بأدوارهم ــــــ شخصياتهم الجديدة.
    القلق المتزايد يفسّر بالضرورة اللجوء إلى المهدئات، لكن كرم تعترض على الافراط في تناولها واعتبارها الحل لكل المشاكل.

    الأب البديل

    يلفت الدكتور شوقي عازوري إلى أن الذين لا يعيشون أزمات نفسية هم الأشخاص الذين يستخدمون قوة الأب (ممثل الأنا الأعلى) لكبت الحياة الحيوانية التي يعيشون فيها، قوة الأب بهذا المعنى معيار للتوازن النفسي. والحديث هنا عن “الأب الذي يحوي ولده لا الذي يتسلط عليهالانهيار السياسي لصورة الأب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، جرّ انهياراً لصورته على صعيد العائلة، أي أنه فقد دوره في إحداث التوازن وهو الأمر الذي جعل ظهور تيارات التطرف والأصوليات ممكناً بل سهلاً. وجعل دور القائد مهماً جداً لدى جماعته، فقد أخذ دور الأب، أو صار كالطوطم رمزاً للأب الذي قُتل. يُذكّر عازوري بأن المجتمعات البدائية فهمت أن الرمز يشبه الشيء الذي يرمز إليه، لكن ليس هو، لذلك يشدد على ضرورة أن تبقى مكانة الأب “الغائب” بلا بديل.
    وماذا بعد كل هذا القلق وحالات البغض المتبادل؟ هل من “دواء” لما تنتجه التشنجات السياسية؟

    التصالح الضروري

    تتحدث الدكتورة سهى بيطار عن Resilience أو “القدرة على التعافي والتكييف بسهولة مع سوء الحظ أو التغييرات الصعبة”. تذكر بأننا عانينا من العدوان الإسرائيلي وأننا لا نزال نعيش في “حالة حرب” لأننا لا نشعر بالاستقرار، نحس بأن حيواتنا مهددة، وأن منازلنا ليست آمنة، ونتخوف من أن نشهد حالات انهيار عصبي وظهور مشاكل نفسية جديدة إذا استمرت الحال السياسية على ما هي عليه من توترات وتجاذبات. وإذا تمت تسوية الأمور السياسية الخلافية، تتوقع بيطار أن يعم الفرح والاحتفالات، لكنها تدعو إلى ضرورة أن يتحادث اللبنانيون بشأن الخلافات التي وقعت بينهم “الذي لا يُقال ثقيل يؤثر على التصرفات، إذا لم يتحدثوا فإن الخوف سيعود ليظهر في حال وقوع توتر جديد”.
    في الوقت الحالي على اللبناني أن يبحث عن التوازن الداخلي الذي لا يمكن أن يوفره له المحيط الخارجي “فالمدخول المادي لا يكفي والسؤال عن المواطنية لا يزال كبيراً ، أما فيما يتعلق بمسألة الهوية فحدّث ولا حرج”. يرتكز هذا التوازن مثلما تعرّفه بيطار، على عامل الثقة بالنفس، والثقة بأن المرء جزء من الكل بالمعنى الفلسفي للعبارة، فالإنسان المعاصر يحتاج إلى مرجعية للثقة والمطلق الوحيد هو الخالق أي الله بالنسبة للمؤمنين، وعظمة الوجود المتجانس والمتكامل بالنسبة لغير المؤمنين بالله. وتتحدث بيطار عن “مرجعية أخرى وهي القدرة على الحب والعطاء من دون البحث عن مقابل”.




    دعوهم يلعبوا... بالحرب

    يخاف الأهل من الحرب ويتصرفون حيالها بما يمكن أن ينقل عدوى هذا الخوف إلى الأطفال، لكن الطفل نفسه لا يخاف من الحروب “الحقيقية”، لأن لها نهاية عكس الحروب التي يشعلها في خياله. هذا ما يشرحه الدكتور شوقي عازوري في إطار انتقاده تصرفات الأهالي مع أطفالهم في فترات الأزمات والحروب من خلال العمل على إلهائهم أو إبعادهم عما يحدث. ويلفت عازوري إلى أن الطفل يطوّر حتى عمر سبع سنوات نشاطاً نفسياً وعاطفياً يمكن مقارنته بنشاط دماغ كدماغ آينشتاين “يقتل الطفل في مخيّلته جده ووالده وأصدقاءه وأمه آلاف المرات، إنه يعيش لذة القتل ولذة الغرام واللذة الجنسية، وتقوم التراجيديا التي يعيشها على مرتكزات ثلاث هي: الحب والموت، والحب والحياة، والرغبة والموت”.
    “دعوهم يلعبون” شعار رفعه الدكتور عازوري منذ فترة طويلة، وخصوصاً من خلال بعض نشاطات جمعية “صحتنا لنا” التي شارك في تأسيسها قبل سنوات قليلة. ويؤكد أن “للأطفال دوراً مهماً خلال الحروب فهم يدفعوننا إلى إيجاد طريق إلى الحل، يستطيعون أن يسيطروا على الآفة الرضية (trauma) الخارجية عندما يتحولون إلى لاعبين بالحرب”، وأعطى مثالاً على ذلك تصرفات أطفال الجنوب الذين “استوعبوا الحرب كأذى خارجي، فكانوا يلعبون في باحات المدارس التي لجأوا إليها”، في هذه الحالة يُخرج الأطفال من دواخلهم كل التأثيرات الرضية لعنف الحرب.
    الأولاد يلعبون بالحرب ويعلّمون الكبار ــــــ إذا أراد هؤلاء أن يتعلموا ــــــ تخطّي الحروب وصدماتها وتخطي العداوات فيما بينهم كنتيجة لذلك. وما يُقال في الحرب وتأثيراتها ومحاولات تخطيها صحيح أيضاً في حالات التوترات السياسية كالتي نعيشها في لبنان حالياً.




    يا صيدلي الحقني!

    احتل لبنان مرتبة متقدّمة جداً في اللائحة العالمية حول نسبة الذين يتناولون أدوية الاكتئاب والمهدئات من مجموع المواطنين، وقد شاركت منظمات عالمية في إعداد هذه الدراسة التي نشرت في نهاية عام 1999صدرت قوانين تمنع شراء هذه الأدوية في غياب وصفة الطبيب، لكن نسبة تناولها لا تزال مرتفعة. اللبنانيون يفضلون المهدّئات وقليلون يلجأون إلى عيادات الأطباء النفسيين. يفضل اللبنانيون بالطبع خدمات أصحاب الصيدليات. ومنذ حرب تموز تزايدت نسبة الاقبال على “المهدّئات”، لم تصدر بعد الأرقام النهائية عن أعداد علب “المهدئات” المستوردة أو المُباعة، لكن ثمة أرقام تحدث عنها النقيب صالح دبيبو تسمح بالتنبه إلى زيادة استهلاك هذا النوع من الأدوية بين عامي 2005 و2006.
    فقد زاد استيراد “Dormicum 7.5 10 cp” من 28300 علبة إلى 30800، و “Lexotanil 1.5 mg 30 cp” من 101000 إلى 131000، و”Lexontanil 3mg 30 cp” من 177000 إلى 211000، و “Lexotanil 6mg 30 cp” من 37500 إلى 46000، و “Myolastan 50 mg 20cp” من 22500 إلى 25000، و “Pazolam 0.5mg 60cp” من 8000 إلى 10000، و “Rivotril 0.5mg 50cp” من 37500 إلى 53500، و “Rivotril 2mg 30cp” من 53500 إلى 68750، و “Valium 5mg 25cp” من 29500 إلى 35000، و”Xanax0.5mg 30cp” من 105000 إلى 363000.
    لا يمكن انكار أن هذه الأدوية تستخدم لتلبية حاجات شفائية، لكنها تمثًل بالنسبة لعدد كبير من متناوليها وسيلة للهروب من الواقع والسيطرة على الاكتئاب والقلق، والمخيف أن نسبة استيرادها زادت ــــــ مع اختفاء ضئيل لأدوية أخرى ــــــ رغم أن عام 2005 كان عاماً كئيباً بالنسبة للبنانيين، وشهدت البلاد خلاله أحداث أليمة.