أنسي الحاج
تتخفّف الوقاحة من فظاظتها حين يقولها متمرّد على متمرَّد عليه أقوى منه بكثير، وكأنه لا ينجرح. تغدو كريمة، مغسولة بالصبر. وقاحة المتمرّد الذي سَكَت طويلاً هي عينان تطلّان لحظة، لحظة حاسمة أبلغ من عمر، قبل أن تعودا إلى وراء حجاب السكوت. التمرّد الذي لا يستحيل تحت ألمه إشراقاً، طَمَعٌ. علّته مشبوهة وغايته مشبوهة. في التمرّد، على الأرجح، غفران اليأس.
المتمرّد أقوى أخلاقيّاً من خصمه. خصمه اللائق به هو من لا يجرؤ الآخرون عليه. المتمرّد صدّيق ذو خَفَر حتى ليبدو آخر القوم. المتمرّد كائن لا يرفع صوته إلاّ حين يختفي صوته من القهر. القهر على الذات وعلى الآخر. التمرّد الذاتي ملتبس بالنرجسيّة، التمرّد الغَيريّ نزعة فدائيّة. وقاحة المتمرّد يغطّيها قلبه الذي على كفّه.
المتمرّد هو دائماً عين. لا يكسر المخرز سوى العين. المخرز الذي يحفر الصخر قد يُخجله تبكيت العين. هذه من عجائب الكائنات.
إذا أخطأ الأضعف منّا لا نتمرّد عليه بل نحيطه بالحب. لا يَحْمل على الضعيف سوى جبان. يُرْكَل الجبّار لا المتسوّل. الوقاحات مقبولة عندما يكون الموجّهة ضدّه أشدّ منها صفاقة وأفعل ضرراً. الإرهاب الغيبي يجب أن تقابله محاسبة إرهابية. لا يفلّ حديد الجلّاد إلّا حديد الضحيّة.
... ومع هذا لا يسوغ التطاول لكلّ الضحايا. بعضهم يزيده صراخه أهليّةً للانجلاد. تخطئ الأقدار أحياناً في اختيار ضحيّة، مثل ضحيّة كانت مخصّصة للانتصار، وحصل خطأ. الضحيّة المُسْتَلَبة الحظّ. مَلِكٌ في المنفى... ضحيّة كهذه جلّادٌ سابق، تحتفظ بعلامات سيادة سريّة مهما حطّ بها الدهر.
لا تظنّنَّ أيّة ضحيّة أنها ضحيّة.

الساديّة في هذه الفكرة هي قولُها هكذا. الواقع يكرّسها تاريخيّاً ونفسيّاً.
ولا يظنّنَّ أيّ جلّادٍ أنه جلّاد.

ما يُشعرنا بالامتنان حيال القدرة الخَفيّة هو أنها ترى عيوبنا المستورة ولا تقول شيئاً...

نعشق مَنْ هيئتُه تثير شهيّتنا إلى أكله. أكثر ما نَعْشق، على الشاشة. الصورة أكْلة كاملة الأوصاف، مُعارة إلى الخيال في حريّة مُطْلَقة، على انفراد مُطْلَق. عندما نضطر إلى علاقة «فعلية» نفشل إنْ لم نحوّل الواقع إلى حلم نعيشه، ويتجاوب مع أهوائنا في ممارسته، تلطيخه، عَلْكه. إذا أخطأْنا المعشوق عَلِقْنا. إذا عاودنا وأخطأنا وازددنا إصراراً ثم نجحنا، يغدو الخطر هو التحجّر في الأسر. نقع في العبادة، في العبودية. يتصاعد البخار إلى الدماغ: الحبّ.
ثم، ربّما انتباه يوقظه ارتطام بخشبة نشازٍ ما في نغم الشريط المعروض.

يلعب الفكر مع الشعور لعبة المستثمِر مع المستثمَر. يُنَصِّب نفسه وصيّاً عليه وينتهزه. عندما يفيض الشعور ويَجتاح، يحايده الفكر، إلى أن تمرّ النوبة. بعد العاصفة يعود الشعور إلى سابق عقدة نقصه، موقّتاً.
لكنّ الفكر لا يعود تماماً إلى سابق سلطانه، فقد أفقده مَشْهدُ العاصفة اعتداده بنفسه وأحلّ عقدة العجز المراقِب محلّ تفوّق الحكماء.

عندما يذهب اللامع يكثر عارفوه. عندما يذهب وعندما لا يذهب. الشهرة كالذخر، كرداء المسيح، نتقاسمها كأنَّ بها إسعافاً. من يتخلّف عن لمسها يشعر بأنه منبوذ. تلفّه عتمة الغَمْر. عتمة لا يحتملها حتّى الرافلة نفوسُهم بالنور.

المسافات التي تفصل بين المجرّات تُشعرنا بأننا نحن الأرضيين وَحْدنا أحياء في الكون. قد يكون في المجرّات الأخرى كائنات تعيش في وَهْم مماثل. عوض الاستغراق في تَخيّل أشكالها، لو فكّرنا في ما يسقط وما يبقى من تقاليدنا ومميزاتنا عند اكتشافنا بعضنا لبعض، وفي ما سيتغيّر من عاداتها هي. إذا حصل ما يُصغّر تلك المسافات الهائلة أو يلغيها سيتّحد الكون وتأخذ هذه الكلمة معناها للمرة الأولى. هل ندرك حينها أنه كان واحداً منذ البدء ولو لم نرَ منه غير كوكبنا وسقفه؟ أم يَظْهر تنافرنا أشدّ وتتعاظم العداوات ونترحّم على المسافات؟

هناك من لم يقتنع بأنها لعبة وبأن قوام اللعبة: الغاية تتهرّب من طالبها. بساطة هذه القاعدة تثير الجدل. ثمة شواذات ربّما، وما تفعله هو تثبيت القاعدة.
الحظ، السلطة، الحبّ، الحياة. «لا تعبّرْها» كما يقول شباب اليوم، ترَ كيف تتهافت عليك. أحببها بوضوح، منكشفاً، تتلأمن عليك. الأشياء لها طباع. المجرّدات، هنا، ذات أيدٍ وأرجل. حتى الأفكار تلعب لعبة الجلّاد والضحيّة.
الرابح ليس الذي لا شيء لديه يخسره بل من يرفض أن يربح.