الدوحة ــ فاتن الحاج
  • الحكومــات تخــلي الســاحة أمــام المجتمــع المــدني

    ترجمت البلدان العربية التزامها بتعليم البالغين إلى برامج عملية، رغم العبء الكبير المتمثّل بتقليص الـ58 مليون أمّي. وإذا كانت تجارب محو الأميّة تتباين بين بلد عربي وآخر، فإنّ الأوضاع تتشابه من حيث الالتزامات السياسية وتزايد الدعم المالي من جهة، وندرة الإحصاءات الدقيقة التي تتوافر للدول من جهة ثانية

    ما زال تحدّي تعليم الكبار عائقاً أمام الجهود التنموية الوطنية في الدول العربية. ولم تعد الأميّة مشكلة “تعلّمية” فحسب، بل غدت قضية تندرج في إطار التنمية الاجتماعية والاقتصادية. من هنا يساعد تحديد مفهوم “الأميّة” والاتفاق على عناصره، كما تقول رئيسة “مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع” الشيخة موزة بنت ناصر المسند، في بناء منهجية التصدي له، و“خصوصاً أنّ المنطقة تواجه نسقاً مركباً من الأميّات في القراءة والكتابة والتكنولوجيا والوعي البيئي والثقافة والإعلام والصحة...”.
    ولكن تبقى إجراءات محو الأميّة في حالات الأزمات وما بعد النزاعات والطوارئ من الأولويات لحماية المنظومة التربوية. إذ يؤدي اندلاع نزاع من هنا أو حصول كارثة طبيعية من هناك إلى توقيف الانتفاع بالتعليم ويحول، وفقاً للحالة الأمنية السائدة، دون اكتساب شرائح كاملة العلم.
    هذا ما يخلص إليه المتابع للنقاشات التي دارت في إطار أعمال مؤتمر “تحدّيات محو الأميّة في البلدان العربية” الذي نظمته “مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع” الأسبوع الماضي في العاصمة القطرية ـــ الدوحة، ولا سيما في الدول التي لا تعيش استقراراً كفلسطين والعراق والسودان واليمن.

    فلسطين: الحاجة أمّ الابتكار

    ينفرد الفلسطينيون بتجربتهم، حيث تسنّى للشعب الفلسطيني التعامل مع الأزمات المستمرة بالاعتماد على موارده الخاصة ومرونة مجتمعه وثقافته. وقد كانت الحاجة هناك أمّ الابتكار، إذ يؤكد المدير العام للملتقى التربوي العربي في فلسطين الدكتور منير فاشه “أنّ الوضع في الأراضي الفلسطينية كان سبباً لكي نعيد التفكير بمبادئ محو الأمية بأشكالها المختلفة والتي اضطلعت بدور أساسي خلال الأزمات التي شهدناها في أوائل السبعينيات من القرن الماضي”. ويوضح فاشه “أنّ نسب الأميّة والتسرب المدرسي من أقلّ النسب في العالم العربي رغم الحواجز الأمنية، والسبب امتلاك التحدي في الوصول إلى العلم”. ويلفت إلى “أننا تجاوزنا محو الأميّة الأبجدية إلى مواجهة أشكال أخرى كأميّة التعرّف إلى الدول المجاورة، حيث ننظم كمنتدى رحلات ثقافية للشباب من عمر 18 حتى 35 عاماً إلى كل الدول العربية، بهدف الخروج من إطار الحدود الفلسطينية، وكذلك نفعل بالنسبة إلى الشباب في المخيمات الفلسطينية في بلاد الشتات، كما نطلب منهم عبر مشروع قراءة الحياة تأليف كلمات ومعانٍ نابعة من خبراتهم لفهم الحياة”. ويعتبر فاشه في هذا الصدد “أنّ الكنوز الحقيقية موجودة في الناس”.

    العراق: نزف منذ 1980

    وفي العراق، تعرض النظام التربوي لأضرار ضخمة ناتجة عن سلسلة الأحداث التي عاشتها البلاد منذ عام 1980. فبعدما كان المنهج التعليمي العراقي من أهم المناهج في الشرق الأوسط في أوائل الثمانينيات، بات مستوى التعليم اليوم لا يتجاوز الـ 74%، فيما تصل نسبة معرفة القراءة والكتابة لدى النساء إلى 64%. ويشير الدكتور محمد على بيله (منظمة اليونيسيف ـــ العراق) إلى “أنّ الحالة التي خيّمت على البلاد في السنوات السابقة دفعت قسماً كبيراً من التلامذة للتوقف عن الدراسة، ما أدى إلى افتقار المراهقين إلى القدرات الأكاديمية الأساسية التي يكتسبونها في الصفوف الابتدائية”. لذا يسعى برنامج التعليم المسرّع الذي تطبقه وزارة التربية العراقية منذ عام 2004، بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) إلى توفير الفرص التعليمية للمراهقين المتسرّبين كي يتمكنوا من إنهاء المرحلة الابتدائية خلال ثلاث سنوات بدلاً من ست. وقد التحق بالبرنامج 16 ألف طالب عراقي. وبما أنّ العراق يعتبر واحداً من 35 دولة مشاركة في مبادرة محو الأميّة للتمكين (لايف)، فإنّ منظمة التربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) توليه أهمية خاصة بهدف الاستجابة لحاجات البلد وأولوياته الخاصة. ويقترح قطب خان (اليونسكو ـــ العراق) “التشديد على توفير التعليم الأساسي، وخفض العبء المالي للأقساط المدرسية، ومعالجة الممارسات التي تعرقل مواجهة أزمة عمل الأطفال، وحل مشكلة الاستبعاد من جذورها عبر تطبيق استراتيجيات تمكينية اجتماعية”.

    57% نسبة الأميّة في السودان


    أما في السودان، فلا يحظى التعليم إلّا بالنذر القليل من الاهتمام، فالجزء الأكبر من الميزانية يصرف على إعادة الإعمار والاستقرار. ويقدّم وزير التعليم العام الدكتور حامد محمد ابراهيم مقاربة سياسية للواقع التعليمي السوداني فيقول: “كان السودان سبّاقاً في مجال تصدير المعلمين والخبراء والتجارب التعليمية لأشقائه العرب والأفارقة. لكن منذ عام 1970، أصيب السودان بكوارث الجفاف والتصحر في كثير من مساحاته، إضافة إلى ظهور بعض المجموعات السودانية التي نادت بالمساواة في السلطة والثروة في غرب السودان، فضلاً عن الحرب في الجنوب التي قضت على البنى التحتية في المدن والأرياف والبادية”. ويضيف ابراهيم: “عانى التعليم في كل مرافقه من هذه الأزمات، وباتت أكثر من 600 مدرسة بحاجة إلى إعادة بناء في الجنوب، وينطبق الأمر على غرب السودان وشرقه”. ويوضح أنّ حكومتي السودان وجنوب السودان بذلتا جهوداً في حدود إمكاناتهما، بمساعدة مجموعات المنظمات الوطنية”. ومع ذلك، يبدو أنّ القدرات الوطنية التي يتوقع منها مراقبة وتقويم برامج محو الأمية وتعليم الكبار ضعيفة، فيما تتمتع المنظمات غير الحكومية بخبرات أفضل في هذا السياق، ما يساعد النظام الوطني على الاستفادة من الممارسات التي أثبتت فعاليتها على المستوى المحلي. أما على المستوى الدولي فينفي ابراهيم حصول السودان على أي دعم من “اليونسكو”، علماً بأنّ بلده يشارك في مبادرة محو الأميّة للتمكين (لايف).
    يذكر أنّ نسبة الأمّية في السودان وصلت إلى الـ57%.

    اليمن ضحية للنظام التعليمي

    شهد اليمن الكثير من الانقلابات والاغتيالات والتدخلات الخارجية في شؤونه، كما أتت الخلافات والمناوشات الداخليّة على ما بقي من جهد نحو تحقيق التنمية المنشودة. لذا، يرى وزير التربية في الجمهورية اليمنية عبد السلام الجوفي أنّ “الأميّة في اليمن هي نتاج طبيعي لوضع البلد ما قبل 1962 حيث لم يكن هناك أي نظام تعليمي وبرامج تخدم المجتمع وتحض على التعلّم”.
    إلّا أنّه بعد تحقيق الوحدة بين الجمهورية العربية اليمنية في الشمال وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية في الجنوب في عام 1990، “تم تجفيف منابع الأميّة” على حد تعبير الجوفي، من خلال “توسيع برامج التعليم الأساسي واستحداث جهاز محو الأميّة وتعليم الكبار. وقد انخفضت الأميّة من 50% في التسعينيات إلى 45%، فيما وصلت النسبة إلى 20% في بعض المحافظات”. وتسعى الحكومة حالياً إلى تشجيع الانخراط في التعليم وتوفير مدرّسات في المناطق الريفية. وفي ما يتعلّق ببرنامج “لايف” الذي تشارك فيه اليمن أيضاً، يوّضح الجوفي أنّ البرنامج ليس تمويلياً وهدفه تقديم المساعدة التقنية في البرامج والدراسات الخاصة لتقدير الحاجات.


    لبنانياً: التسرّب هو الأخطر

    تشير آخر دراسة مقارنة نفذتها وزارة الشؤون الاجتماعية اللبنانية بالتعاون مع إدارة الإحصاء المركزي حول “أوضاع الأسر المعيشية” ( 2004-2006) إلى تناقص حجم الأميّة وتصاعد الالتحاق بالمدرسة. وتوضح مديرة اللجنة الوطنية لمحو الأميّة وتعليم الكبار في لبنان أمل شرارة أنّ الأميّة من سن الخامسة عشرة وما فوق باتت 9.7 % رغم الكوارث وإعادة البناء. وتعزو شرارة ازدياد نسبة الالتحاق التعليمي في التعليم الأساسي إلى الإنجازات التي تحققت بالوصول إلى أصحاب الحاجات التعلمية في المناطق والقرى. لكنّ الخطوات لم تكن كافية، فلا تزال نسبة التسرّب كبيرة إذ تبلغ 35% في الحلقة الأولى والثانية. وفيما ترجح شرارة أن يكون الترفيع الآلي سبباً للتسرّب، تبدو متأكدة، من خلال بعض الملاحظات الميدانية، من أنّ الواقع يحتاج إلى تدريب أكثر مرونة للمدرسين في هذه المرحلة. فلا يكفي، تقول شرارة، المؤهل العلمي بل المطلوب التمتع بمهارات معرفية وثقافية للدخول في عالم الطفولة. وتعتبر شرارة أنّ التسرّب من التعليم الأساسي يشكل أحد أخطر منابع الأمية. وتقول: “المؤشرات الأخيرة حول الاستمرار في التعليم الأساسي لمصلحة الإناث على الذكور تؤكد أنّ هناك شرائح كبيرة تتسرّب من دون أية خبرات تدريبية ومهنية، ما يساهم في الارتداد إلى الأميّة، والدخول في دوامة البطالة المقنعة”. وتخلص شرارة إلى “أنّ تراكماً في المشاكل في ظل غياب حلول متوازنة سيؤدي إلى مزيد من الأميّة والبطالة”. وتبيّن الدراسات أنّ ثلث الناتج الوطني اللبناني يعود إلى ذوي المؤهلات التعليمية الأساسية.
    من جهة ثانية، وضمن جهود اللجنة الوطنية، ساهم طلاب جامعة البلمند في محو الأميّة لدى النساء والشباب في بعض قرى عكار. ويشرح الدكتور نديم كرم أنّ “البرنامج يندرج في إطار واجبات أكاديمية، بحيث يحسب الجهد المبذول من قبل الطلاب في محو الأميّة كجزء من متطلبات التخرج، فيحسم ثلاث وحدات دراسية من مجموع الأرصدة”.


    النموذج القطري في التعليم


    خطت دولة قطر أشواطاً على صعيد تعزيز التعليم وخفض مستويات الأميّة، بعدما عمدت “مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع” إلى تأسيس المدارس المستقلة، وإنشاء صرح المدينة التعليمية التي تغطي مساحة 12 مليون متر مربع، وتتضمن خمسة فروع لجامعات أميركية وتهدف إلى تعزيز التميّز التعليمي في المنطقة.
    يذكر أنّ 46% من الطلاب قطريون، فيما ينتمي الباقون إلى 45 جنسية مختلفة. ويشير نائب رئيس المؤسسة عبد الله آل ثاني إلى أنّ فكرة إعادة هيكلة النظام التعليمي من الروضة حتى المرحلة الثانوية بدأت في عام 2001، بهدف “إعادة إنتاج طالب بمستوى تعليمي عال يخوّله ولوج الجامعات العالمية التي ننوي استقدامها إلى بلدنا”. ويلفت آل ثاني إلى “أننا واجهنا الحقيقة بعدما تبين لنا أنّ شروط القبول في هذه الجامعات كثيرة، وليس سهلاً على أي طالب تلبيتها”. ويوضح أنّ الخطة كانت متكاملة، إذ إنه “خلال مرحلة الهيكلة كنا نفكر بالدراسات العليا بعد المرحلة الجامعية ومراكز الأبحاث لأننا كنا نطمح إلى تحويل الأبحاث إلى تجارية”. ويتوقف عند أهمية الخطوة “شعرنا بأنّ تغييراً طرأ على المستوى التعليمي، فالطلاب القطريون باتوا يتمتعون بطريقة تفكير مختلفة ويمتلكون القدرة على اكتساب المعلومات بأسلوب مغاير عما كان يحصل في السابق”. ثم يستدرك: “الإصلاح في التعليم يمكن من تأهيل الأجيال القطرية الصاعدة بالمهارات والمعارف الضرورية، لكي يكونوا قادرين على منافسة الآخرين على الصعيد الدولي، مع احترام ومراعاة التقاليد والهوية الوطنية والثقافية”. وينفي أن تكون هناك ضغوط أميركية أو «أمركة» للمناهج بدليل أنّها تخضع للإشراف المباشر من الأعضاء المستقلين في المجلس الاستشاري الذي يتألف أيضاً من عدد من القطريين ومن المسؤولين عن الجامعة، وبالتالي “الخصوصية محفوظة”. وقد استطاعت المؤسسة محو أميّة 90% من القطريين، من دون وجود تفاوت ملحوظ بين الذكور والإناث في الالتحاق بالتعليم.