strong>تغريد السميري
  • دراجات نارية بالأجرة... وزوزو تغيّر مدرستها للمرة الثانية
    بات ازدحام السير في بيروت سمة عامة للمدينة، لكنه يتخذ طابعاً آخر في الضاحية الجنوبية التي تفاقمت فيها هذه الظاهرة بعد العدوان الاسرائيلي الأخير. ولم تعد أحاديث سكان الضاحية، لا سيما منهم مستقلّو وسائل النقل العام، تخلو من شكاوى ونوادر الطريق الصاخبة بالأبواق والشتائم

    يطفئ معظم سائقي النقل العام محرّكات آلياتهم عند إشارات السير حتى يوفروا بعضا الوقود، ويفضّل عدد كبير من المواطنين إكمال “رحلتهم” إلى البيت أو العمل سيراً على الأقدام توفيراً للوقت الذي يهدر في وسائل النقل.
    ولا يتوّرع شرطيو السير عن مغادرة أماكن خدمتهم بعد أن يفيض الأمر بهم نتيجة عدم القدرة على السيطرة على الوضع...
    لكن المشكلة الأبرز، تبقى في حالات التوتر التي يعيشها المواطنون والسائقون داخل وسائل النقل. ويتناقل عدد منهم، على خط الضاحية الجنوبية، قصة رجل سبعيني استقلّ الباص، جلس الى جانب السائق وهو يمرّر حبّاب سبحته بين ابهامه وسبابته وراح يتمتم طول الطريق: “يا الله.. يا ميسر...”. وكان كلّما ازدحم السير، ازدحمت الدعوات على شفتيه وتسارعت الكلمات إلى أن “طفح الكيل” فصرخ بصوت مرتفع وهو ينزل من الباص: “أختكن ع أخت العجقة”.

    في الـ“أوتوكار”

    إنها السادسة صباحاً، تطبق زوزو ابنة العشر سنوات قبضتها على خمسمائة ليرة مصروفها اليومي وتنزل الدرج مسرعة قبل أن يوقظ بوق “الأتوكار” سكان البناية.
    تصعد إلى الباص لتجد صديقتها وقد سبقتها إلى الجلوس قرب الشباك، ترتسم على وجهها علامات الحنق وهي تختار مكاناً آخر للجلوس يتيح لها أيضاً مراقبة زملائها في الرحلة الطويلة التي ستقلّها من اوتوستراد السيّد هادي نصر الله في الضاحية الجنوبية إلى مدرستها في خلدة.
    في باص المدرسة الذي “يعلق بالعجقة” كل صباح، يستغلّ الأطفال الازدحام ليكملوا نومهم الذي حرموا منه، ولا يعود يوقظهم إلا ضربة فرامل مفاجئة أو بوق مزعج. فيما يستغلّ بعضهم الازدحام ليكملوا واجباتهم المدرسية. تتذكّر زوزو أنها بدورها، لم تحفظ الاستظهار بعد، لكنها لا تبادر إلى سحب كتاب القراءة من محفظتها، فهي ستصل متأخرة كعادتها إلى الصف. تعرك عينيها كأنها تريد أن تمنع نفسها من النوم وهي تفكر بما ستقوله للمعلّمة لتبرّر تقصيرها. لكن كلّ ما يخطر في بالها تكرار شكواها لأمها لكي تنقلها مجدّداً إلى مدرسة جديدة أقرب إلى البيت، وهي التي كانت قد انتقلت من بنت جبيل بعد دمار منزل أهلها خلال الحرب الاسرائيلية الأخيرة.. حين تنتقل إلى مدرسة جديدة ستقول لزملائها: “الحرب دفعتني إلى تغيير مدرستي في القرية، وازدحام السير دفعني إلى الانتقال من خلدة”.

    سوق في “جحش الدولة”

    يصعد أبو محمد، الرجل الخمسيني، الى الاتوبيس. يقطع تذكرته ويبحث بعينيه الخضراوين عن مقعد فارغ ليلقي بجسده عليه. يبلع “كرشه” ويمرّ بشكل جانبي بين المقاعد. أكياس الخضرة التي يمسكها بيديه تجعله يميل يميناً وشمالاً ككفتي الميزان. يلقي بانزعاجه من ازدحام السير الذي لحقه من الشارع إلى الباص قرب امرأة تطبق بذراعيها على طفلها الذي ملأ صراخه الأجواء التي عطرتها رائحة الخضرة، كأن أبا محمد يحمل في أكياسه كل سوق البقالةتشتد الزحمة عند تقاطعات كنيسة مار مخايل ـــ المشرفية ـــ الغبيري وجسر المطار، وصراخ الطفل الذي يريد الدخول الى الحمّام يشتد، لكن عجقة السير الخانقة لا تفرج ضيقته، ولا تخفف عن محنة “أبو محمد” الذي أمضى حتى الآن أكثر من ساعة في “جحيم” الازدحام وقد يكون اعتقد أنه سيمضي عمره فيه... خصوصاً بعدما أخّرت فتاة سيرلنكية الباص لدقائق ثمينة إلى أن “يحزر” السائق أين تقع منطقة “صفار” في الضاحية. فقد أغلق الضوء الأحمر السير قبل أن يدرك السائق أن الفتاة تريد التوجه الى محلة “صفير”، وهكذا اضطر الركاب إلى انتظار الاشارة أكثر من عشر دقائق لتفتح من جديد، استمعوا خلالها إلى شتائم أبي محمد اللاذعة التي انهالت على مسامعهم مثل زخّات الرصاص.

    الدردشة حلاًّ!

    على عكس الاوتوبيس الذي يلتزم خط سير واحد، يمكن سائق “الفان” أن يتملّص عبر سلوك طرقات فرعية. والمحظوظ هو من يستقل “فاناً” يقوده سائق يجيد “المطاحشة” و“الزوربة” وبالتالي الهروب من الازدحام. وطبعاً يقلّ حظ الراكب الذي يستقل فاناً يقوده سائق “شهم” لا يترك ماراً إلا يتيح له اجتياز الطريق ولا سيارة إلا يمرّرها قبله ولا منتظراً إلا يسأله: إلى أين؟؟.
    وهكذا يعيش ركاب الباصات الصغيرة أزمة الازدحام نفسها، وتبقى “الدردشة” السبيل الوحيد لتقطيع الوقت وتجاهل صوت الأبواق خصوصاً عندما يلتقي أحدهم بابنة قريته. فمَن أفضل من ابن البلد ليشكو لها عماد، الأربعيني، تبذير الزوجة التي تخاصمه حين لا يأتي بالمال “لا تحكي معي وتحرّض الأطفال عليّ أيضاً”. وكما يزدحم السير تزدحم التفاصيل في القصة، ويعلم جميع مستقلّي الفان أن الزوجة “لا تطبخ الا فراريج أو لحمة” و“لا تلبس يوماً ما قد تكون لبسته في اليوم السابق”.
    تطول الرحلة في الباص، ويجد الزوج أن قصته خفّفت من توتر الركاب فيقرّر سردها منذ البداية، أي منذ تعرّف إلى “وج النحس” التي “حردت بعد 10 ايام من الزواج وذهبت إلى بيت أهلها”.

    المخطوبة

    “لا تلحقني مخطوبة”، استقرت عينا سمر على هذه العبارة التي كتبت على زجاج سيارة التاكسي حين توقفت لتقلها. جلست إلى جانب السائق الذي لم ينتظر أن تغلق الباب حتى بدأ بشتم شرطي السير ومن وظّفه: “جايبين ولاد زغار يمشّوا السير”.
    يحمّلهم السائق العجوز، الذي لا يكاد يظهر من وراء مقود السيارة، مسؤولية الازدحام، “هم الذين يتسببون بالعجقة”. ولم ينتبه بتاتاً إلى أنه توقف في وسط الطريق مرات ومرات ليسأل كل مار على الطريق “لوين واصل؟” ويلعنه إذا لم يكن ذاهباً إلى حيث يتجه هو.
    يمتعض السائق من صوت صفارة شرطي السير، مع أن يده لا تفارق البوق، يقترب أكثر من الإشارة، يضغط على البوق ويسأل فتاة على جانب الطريق “إلى أين؟” ترفع يدها شاكرة، يجيبها بغضب “أصلاً وين بدي حطّك؟”، تهمّ سمر بسؤاله “ولماذا سألتها أصلاً ولا مكان لها في السيارة؟” لكنها تغيّر رأيها فيما يطفئ هو محرّك السيارة مع توقف اشارة السير. يقول بتوتر: “لكي نعيش يجب أن نوفّر البنزين”، ما إن يكمل جملته حتى تعطي إشارة المرور الضوء الاخضر، يحرّك مفتاح السيارة ليديرها، يخرجه ثم يحركه مجدداً.. مرّة تلو الأخرى لكن السيارة لا تصدر صوتاً. تنزل سمر من السيارة، تنتبه إلى ازدياد “العجقة” بسبب توقف السيارة، التي بات باستطاعة الجميع اللحاق بها وإن كانت مخطوبة.

    شرطي السير

    رأي سائق سيارة الأجرة في شرطي السير لا يلزم بقية المواطنين الذين يرون فيه خلاصهم. كلّ العيون تتسمّر على يده التي ستفرج همهم بمجرد أن ترتفع في الهواء ومن ثم تنزل سامحة للسيارات بالمرور. ترى المواطنين حاضرين لإطاعة أوامره لأنهم واثقون بأنه الوحيد الذي سيخفّف معاناة انتظارهم؟ يتعاملون معه بإيجابية، مثلما يفعلون مع شبان متطوّعين لتنظيم السير في شوارع الضاحية الداخلية. ورغم الظروف الصعبة التي يعمل شرطي السير في ظلّها، فلا شيء يحميه من “حرق” الأعصاب، ومن التعرّض لمشاكل في سمعه أو حنجرته، ولا من المطر الغزير في الشتاء والشمس الحارقة في الصيف، سوى بزّة عسكرية مع سترة واقية من المطر، وصفارة بلاستيكية لا تمنع مخالفاً من اجتياز الطريق بعكس السير ولا العالقين في الازدحام من تحويل الطريق ذي الخطين إلى أكثر من ثلاثة خطوط للسير.
    في حالات مماثلة، قد لا يتردد شرطي السير كثيراً في اتخاذ قرار “الهرب” مثلما يقول أحدهم ضاحكاً “فعلتها أكثر من مرة وسأبقى أفعلها حفاظاً على عقلي... العقاب والحجز عندي أفضل من حفلة الجنون اليومي عند التقاطعات”.


    ربّ ضارّة... نافعة

    فعلى الرغم من خطورتها، تبقى الدراجات الناريّة من أفضل وسائل النقل، واكثرها انتشاراً خصوصاً في الضاحية الجنوبية. هذه الدراجات التي لا يوقفها ازدحام للسير ولا إشارات المرور. تحوم كالذباب حول السيارات إلى أن تجد مخرجاً لها ولو كان لا يتسع لأكثر من مقلب دولاب واحد. وإذا لم يجد سائقوها مكاناً يمرّون من خلاله بين السيارات، لا مانع لديهم من تحويل الرصيف إلى طريق مخصصة للدراجات النارية... وليس للمارّة.
    الجديد في الأمر، أن هذه الدراجات لم تعد مخصصة فقط للاستعمال الشخصي. يبادر عدد كبير من سائقيها إلى عرض خدمة التوصيل مقابل ألف ليرة خصوصاً للمضطرين ومنهم طلاب الجامعات الذين يتأخرون في الوصول إلى جامعاتهم، وهذا ما أكده لنا أكثر من طالب جامعي باتوا يعتمدون هذه الوسيلة الجديدة في التنقّل في انتظار توافر إمكانات شراء دراجة مماثلة تسهل لهم تنقلاتهم.
    أما المتسوّلون، فيكادون يشكلون الفئة الوحيدة التي تتمنى عدم حلّ مشكلة السير في لبنان وأن لا يعرف اللون الأخضر طريقه إلى الإشارة أبداً. تراهم يتمركزون عند تقاطعات الطرق الرئيسية منتظرين توقف الخط عن السير ليبدأوا الهجوم: الأطفال يسارعون إلى زجاج السيارات ليمسحوها بخرق بالية رغماً عن أصحابها ويلتصقون بالسيارة ليأخذوا أجرتهم، والنساء يعرضن أطفالهن في أوضاع مزرية... ويبقى المشهد الاكثر إزعاجاً للمتسوّلين الذين يستغلّون إعاقات أجسادهم للحصول على المال من المارّة.
    هي تجارة رائجة لا يوجد من يلاحقها، كما لا يوجد من يجد حلاًّ إنسانياً لممتهنيها.