إبراهيم الأمين
إذا لم يكن ما قاله رئيس المجلس نبيه بري جديداً على الطبقة السياسية التي تعرف الكثير عما يدور منذ فترة في الغرف المغلقة، فإن الجمهور اللبناني العالق بين توترات بعض المعارضين وسخافات غالبية عباقرة الأكثرية قابل امس نوعاً مختلفاً من الكلام السياسي، الذي لا يعكس القلق من انفجار يطيح كل شيء، بل استعداداً لمواجهة الفجور غير المحدود الذي صار وليد جنبلاط وفرقته يحترفونه دون ملل. وصار هؤلاء يحترفون التمثيل الذي يفترضون أنه وسيلة للعيش على ظهر شارع مثقل بالهموم. إلا أن الصورة التي قابلها الناس أمس، بدت مفارِقة بين كلام قاله بري في ما يناسب اللحظة بهذا القدر من المصارحة، ورقص حول الميت يديره صبية جاك شيراك في لبنان.
لم يقل بري كل ما لديه، وهو لو فعل لأقفل باب الحوار، إذ إن أزمة الثقة التي يجري العمل على تجاوزها، تتطلب هذا القدر من الصراحة، لكنها تتطلب قدراً أوسع من الرحابة التي أظهرت المعارضة امتلاكها، بعكس التوتر الذي لا ينقص أياً من فرسان الغالبية الذين صاروا فقهاء في الدستور وعلم الكلام وبناء الدولة. ثم إن بري يعرف أن اللحظة تتطلب صوتاً مرتفعاً يكون كافياً للفت انتباه من بيده الأمر في لبنان وخارجه، وهو كان يعوّل ولا يزال بقوة على السعودية باعتبارها الضامن الفعلي لأي حل مع الفريق الاكثري الذي يفترض أن تمون عليه بقوة: أليس وليد جنبلاط هو القائل إن من بيده المال بيده القرار، إلا إذا كانت مؤسساته الانتاجية تدر ما تدر من اموال عليه وعلى قوى الغالبية؟
لكن المفارقة ليست في قدرة هذا الفريق على التفلت من التوجه العام الذي تقوده السعودية هذه المرحلة، بل في وجود قوى ذات بعد عالمي تمارس دوراً من النوع غير القابل للردع بالوسائل التقليدية، وهو ما ظهر بقوة خلال الفترة القليلة الماضية. ويقول مرجع كبير معني بما يدور إن المعطيات المتوافرة التي تتقاطع عندها الأحداث تقول بأن الرئيس الفرنسي هو من يقود الحملة التي تهدف الى كسر حلقة التواصل القائمة، ويلفت المرجع الى أن النزعة الثأرية الموجودة لدى بعض اقطاب فريق الاكثرية والتي تحولت الى عنصر متحكم بكثير من الامور، تظهر بقوة أكبر لدى الرئيس شيراك، الذي يقدم على خطوات من شأنها توريط فرنسا وتحميلها مسؤولية ما ليس في مصلحتها.
ويضيف: قد يبدو الأمر غير منطقي، إذ إن الادارة الاميركية التي تشجع فريق الاغلبية على المضي في سياسات هوجاء ضد المقاومة بمعزل عما تمثله في لبنان والمنطقة، تتصرف في لحظات معينة بقدر أعلى من المسؤولية، أو بقدر يتناسب مع الوقائع، وهي لا تقود عملية تخريب منظمة إذا كان في الأمر ما يضر الحلفاء في لبنان أو المنطقة، لكن المشكلة أن في فرنسا من لا يرى في المشهد السياسي سوى العمل على تحقيق أهداف باتت شخصية مثل إطاحة الرئيسين إميل لحود وبشار الأسد، ولم يعد منطقياً أن يكون رئيس فرنسا على متابعة واهتمام يومي بلبنان أكثر مما يفعله لأجل ضواحي باريس. ثم إن سفيره في بيروت برنار إيمييه يقود دوراً خطيراً للغاية في تحريض فريق الغالبية على المضي في سياسة الاستئثار بصورة تؤدي الى تدمير صورة فرنسا المحايدة أو التي تقف الى جانب الجميع في لبنان.
ولفت المرجع الى أن السفير إيمييه بات عبئاً على العلاقات اللبنانية ــــــ الفرنسية، وأنه لن يكون أمراً مستغرباً أن تخرج من لبنان الأصوات الداعية الى إبعاده من بيروت بعد خروج الرئيس شيراك من قصر الرئاسة في باريس، وهو امر له صلة عميقة بكثير من عناصر التوتر القائمة الآن في لبنان.
ويقول المرجع إن استقبال الرئيس الفرنسي أول من أمس لقائد القوات اللبنانية سمير جعجع سوف يترك أثره على كثير من الامور التي تخص الموقف الفرنسي والسلوك الفرنسي، وخصوصاً أن جهات رفيعة في وزارة الخارجية الفرنسية كانت على علم بالتحضيرات لمثل هذا اللقاء حاولت تعطيله من زاوية أن جعجع الذي خرج من السجن بموجب عفو لم يكن بريئاً من جرائم بينها قتل رئيس سابق لوزراء لبنان، وأن هناك تناقضاً بين ذلك وخوض معركة كبرى تحت عنوان ملاحقة قتلة رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وأن التركيز يتم على تحميل سوريا مسؤولية هذه الجريمة وهناك ضغط لأجل استخدام كل أشكال النفوذ في العالم لمعاقبة الرئيس السوري وكل نظامه دونما تحقيق مسبق، بينما يجري التساهل من خلال استقبال قاتل لرئيس سابق لحكومة في لبنان.
ومع ان الفريق صاحب هذه الوجهة في الخارجية الفرنسية لم ينجح في منع اللقاء، فإن من بين هؤلاء من يلفت الى ان الترتيبات التي قاد القسم الكبير منها السفير إيمييه أخذت في الاعتبار جعل اللقاء يتم على هامش احتفال منح شيراك النائب سعد الحريري وساماً رفيعاً، وان عدم نشر صور للاجتماع بين شيراك وجعجع بصورة رسمية بدا وكأن اللقاء دُبر في ليل، وهو أمر قال المتصلون بالفريق المعترض في وزارة الخارجية إن له أبعاده اللبنانية الداخلية وفي مقدمها توجيه رسالة قوية الى العماد ميشال عون وتحذيره من أن موقفه الراهن في لبنان سوف يجعله يدفع الثمن عزلة، وأن إيمييه وآخرين من فريق شيراك الدبلوماسي يرون أن من المفيد تمرير أكبر قدر من الرسائل قبل خروج الرئيس شيراك من الإليزيه.
وفي هذا السياق يشير المرجع بما يشبه الجزم إلى أن شيراك هو من قاد عملية تعطيل الحوار الجاري بين بري والحريري، وفريقه في باريس ونيويورك وواشنطن هو من يتولى الضغط باتجاه خطوات تخص ملف اغتيال الرئيس الحريري الآن، ويقول إن هذا الفريق كان يأمل إنجاز مهمته قبل وقت من الآن، وهو الفريق الذي تورط في جرائم تضليل للجنة التحقيق الدولية وكان يعتقد بأن المحكمة وفق التصور الأولي لها سوف تكون جاهزة للعمل قبل مدة ايضاً.
ولذلك فإن شيراك الذي وعد السيدة نازك الحريري بعد اغتيال زوجها بأنه “سيثأر له” ويريد رد جزء من الاعتبار من خلال إقرار المحكمة الدولية الآن مهما تطلب الامر، وأنه سوف يمنع أي تسوية سياسية داخلية أو إقليمية من شأنها فرملة الاندفاعة المجنونة للعقل الثأري الذي يتحكم بعقله وعقل ثلاثي الأكثرية: الحريري وجعجع وجنبلاط!