جان عزيز
كيف تنظر القوى والشخصيات المهيمنة على الشأن السياسي اللبناني اليوم، الى المسيحيين «الشركاء»، انتشاراً وموقعاً ودوراً في النظام والكيان؟
سؤال مطروح في شكل آنيّ دائم، لدى من بقي من المهجوسين بوهم لبنان الكبير وحلم وطنه والدولة. والسؤال غالباً ما يتردد عند المفاصل السياسية اليومية، من حوار بري ــ الحريري، الى القيادة الجنبلاطية للحركة الوطنية ــ نسخة 2007، الى مركزية قريطم في تنظيم المواعيد الباريسية أو الواشنطنية أو حتى الفاتيكانية لمسيحييها، وصولاً الى التساؤل الدائم عن الندية في تفاهم مار مخايل والجدوى والتثمير غير المتكافئ، ووسط ذلك كله، ثمة من يسأل في العمق: كيف يتصور «الفاعلون» اليوم الوجود المسيحي، وكيف يتعاملون معه؟
بعيداً عن استقراءات الوضع اللبناني العام، ثمة حالة وضعية محددة، قادرة على إعطاء الأجوبة عن الأسئلة المذكورة، أو إيحاءاتها.
الحالة تلك اسمها جزين. تلك البلدة المنطقة التي تحمل في واقعها الكثير من رمزية الحالة اللبنانية والواقع المسيحي من ضمنها.
فجزين الجغرافيا، تقع إدارياً عند الزاوية الشمالية الشرقية من الجنوب المتعدد. لكنها تقع تاريخياً وديموغرافياً عند الزاوية الجنوبية الشرقية من جبل لبنان المسيحي، المتبلور تدريجاً صوب لبنان الكبير.
وجزين نفسها تمثّل نتيجة موقعها هذا، حجر وسط العقد بين مثلت متناقض سياسياً وطائفياً: الانتشار الدرزي شمالاً منها عبر الشوف. والانتشار السني غربها الى صيدا.
والانتشار الشيعي الى جنوبها وشرقها، في جبل عامل حتى البقاع. وفي شكل متطابق أيضاً وأيضاً مع رمزية الوجود المسيحي في لبنان، مثّلت جزين دوماً حاجز ــ واقي الصدمات، كما جسر التفاعل والتواصل بين تلك الجماعات. حتى إنها ضمتها في منطقتها وقضائها، وفق المعادلة الدقيقة الحساسة والهشة، التي لازمت لبنان وبنيته المركبة.
... وبعد، ما علاقة جزين هذه بنظرة الآخرين الى المسيحيين في لبنان اليوم؟ واقعتان جزينيتان تقدمان الشرح.
قبل أسابيع قليلة أثار وليد جنبلاط عاصفة إعلامية على طريقته، في شأن قضية بيع مساحات عقارية في نطاق قضاء جزين. لماذا؟ ما هو جوهر المسألة؟ تفيد الوقائع أن النقطة المقصودة هي خراج بلدتين واقعتين في أقصى شرق قضاء جزين، إحداهما ــ واسمها السريرة ــ هي القرية الدرزية الوحيدة في هذا القضاء.
قبل مدة جاء متمولون شيعة من قرية حانويه الجنوبية، اشتروا بعض الأرض وأقاموا فوقها منشآت سكنية. البعض وضع الهجوم الجنبلاطي في خانة «الحرتقة» على «حزب الله». بعض آخر حصره في إطار عدم تقاضي عمولات تقليدية... لكن العارفين أدركوا أن المسألة أكثر عمقاً في الخلفية الجنبلاطية. فتلك النقطة الجزينية تمثّل أحد الممرات القليلة «الآمنة» بين الشوف ووادي التيم. أي إنها تمثّل موقعاً «جودرزياً» في استراتيجيا التواصل الجغرافي الدرزي. لا بل إنها تمثل «كاحل أخيل» في المواجهة الجغرافية الديموغرافية بين الدروز والشيعة، للسيطرة على امتداد «استراتيجي» في الخارطة اللبنانية.
عبر هذه النقطة والمتحكم فيها، يتحدد أمر من اثنين: إما التواصل الشيعي من جبل عامل نحو البقاع. وإما التواصل الدرزي من الشوف نحو وادي التيم.
والعارفون أنفسهم يشيرون الى تاريخية الصراع حول هذه النقطة: في عام 76 عند دخول السوريين من هناك أثيرت المشكلة. وعام 85 عند انسحاب الإسرائيليين الى هناك، أثيرت مجدداً.
حاول أحد طرفي الصراع مدّ اللواء الأول في الجيش اللبناني من البقاع اليها.
فرد الطرف الثاني بإقناع الإسرائيليين بعدم تسهيل الأمر. لكن المحتل عرف كيف يُبقي المنطقة «نومانز لاند»، ليستنزف الطرفين...
في عام 2007 عادت المشكلة نفسها، ولم يظهر أن جنبلاط رأى فيها غير حاجة الى مسيحيين أكياس رمل، للفصل عن الشيعة...
في الفترة نفسها أثيرت مسألة مشابهة في زاوية جزينية أخرى. موظف حكومي بسيط، من القرية السنية الوحيدة في قضاء جزين هذه المرة، يقوم بشراء مساحات عقارية شاسعة، في المقلب الممتد بين «مستوطنة» الحريري غرباً والتخوم الشوفية شرقاً وشمالاً. البعض قال تبييض أموال. بعض آخر تحدث عن استثمارات خليجية وأحلام سلام آت وربيع ألفي. لكن العارفين هنا أيضاً أدركوا أن جوهر الموضوع أمران اثنان: أولاً توسيع الانتشار السني الصيداوي نحو قلب جزين، على طريقة مدّ رأس الجسر في خطوة أولى، والقضم المروحي في خطوة ثانية. علماً أن هذه المنهجية نجحت سابقاً في عبرا ومجدليون ومراح حباس وغيرها من مناطق شرق صيدا. مما شجع على نقلها الى عمق جزين. أما الغرض الثاني فهو توسيع الحزام السني ـــ الدرزي، الفاصل بين إقليم التفاح جنوباً وطريق الضاحية شمالاً. وبين الاثنين، تحولت جزين مرة أخرى بيدقاً على رقعة مهترئة، من عمر القرون العشرة الماضية.
كيف ينظر متصرفو لبنان اليوم الى الوجود المسيحي فيه؟ تبدو الصورة أقرب الى مفهوم أكياس الرمل العازلة والبيادق الجاهزة للنقل والمناورة والتضحية. ألا يدرك المسيحيون المسؤولون هذا الأمر؟ بلى، يقول كثيرون، لكن الأولوية الآن لمعرفة من قتل «أبو بهاء» بعد ساعات على زيارة «أبو طارق» الى «أبو عبدو»..