غسان سعود
ثمة خصوصية تربط شباب التيار الوطني الحر بأمهات المعتقلين في السجون السورية.. خصوصية بالاتجاهين. فمن جهة، ينظر الطلاب بعفوية إلى عيون الأمهات ويرددون «ماما». ومن جهة ثانية، تنتظر الأمهات الشبان ويُعددن «الغاتو» للاحتفال معهم بالعيد.. ورغم الورود والبسمات، يبقى عيد الأم لقاءً خاصاً مع الحزن والشوق لضم الابن وطمأنة الأمومة

يتكرر المشهد للمرة ثانية في عيد الأمهات: صور لأبناءٍ مصيرهم مجهول منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، باقات ورود برتقالية، زحمة طلاب عونيين، وأمهات سئمن الأعياد. هنا الخيمة «الأعتق» في وسط بيروت. تسند الأم السبعينية ذقنها بيدها وتتذكر يوم قررن، قبل سنتين، اختيار زاوية تطل على موظفي «الأمم المتحدة» لنصب خيمتهن والاعتصام أملاً بمعرفة مصير أبنائهن الذين أسرتهم القوات العسكرية السورية. تقول السيدة بلهجة شمالية إنّ الموعد طال، و«مضى المعارضون السابقون لتسلم السلطة متجاهلين وجودنا وتضحيات أبنائنا». هنا ساحة لتشعب الروايات التي ترددها الأمهات للمرة المليون ربما، بالحماسة نفسها وكأن المستمع صحافياً كان أو سياسياً أو طالباً يستطيع أن يحل اللغز ويُسرّ لهم بما يتشوقن إلى سماعه. وتشيد النسوة بجيرانهن الجدد الذين ملأوا ساحة جبران خليل جبران بالخيم، «يحرصون دوماً على عدم إزعاجنا أو المس بخصوصيتنا».
تتنقّل «مدام صونيا» بـ«صينية الغاتو» بين زوارها، وتدعو الواقفين إلى الجلوس «كأن البيت بيتكم»، كاشفة أنّها أقسمت بحياة وحيدها المفقود ألا تعود إلى منزلها قبل معرفة مصير كل المفقودين. وتتحلق أمام الخيمة ــــــ المنزل نسوة لا تغيب البسمة عن وجوههن حتى حين تغرورق عيونهن بالدموع، وتراوح آراؤهن بشأن عيدهن، فيرى بعضهن أن «لا عيد ولا من يفرحون في غياب الابن»، مقابل تأكيد أُخريات أن التفاف الشباب حولهن وتضامنهم معهن في كل عيد للأمهات، يحيي الأمل في نفوسهن، ويجعلهن ينتظرن العيد بشوق كبير. تقول إحداهن إنّ الوردة التي يحملها الشباب إليهن أصدق من خطابات كثيرة، وقبلات الشبان والشابات تزيد شوقهن إلى لقاء «الأبطال». وترى إحدى السيدات أنّ من الأمور المميزة في هذا اليوم، عودة الأمهات اللواتي استعدن أبناءهن من السجون السورية للاطمئنان إلى اللواتي ما زلن في الانتظار.
وكان وفد هيئة التيار الوطني الحر ــــــ المصيطبة أول الواصلين إلى الساحة، بعد ما قدم أفراده مذكرة إلى الأمم المتحدة تطالبها بتبني الرسائل الكثيرة التي قدمتها «لجنة الأهالي». ثم حضر النائب ابراهيم كنعان فاستمع إلى قصص الأمهات و«اتهاماتهن» المتنوعة. ورأى أنّ معاناة الأمهات تجعلهن أقرب إلى الشهداء الأحياء. مطالباً الذين تعهدّوا إنهاء القضية بتحويل أقوالهم أفعالاً. وأشار إلى استحالة التنعّم باستقلال لبنان بعد نضال استمرّ ستة عشر عاماً من دون معرفة حقيقة اختفاء شباب ناضلوا من أجل حرية وسيادة لبنان، أو اعتقالهم أو أسرهم.
من جهته، ذكّر رئيس منظّمة «سوليد» غازي عاد بأنّه العيد الثاني الذي يمر على الأمهات وهنَّ في الخيمة رغم البرد القارس والحرِّ الشديد. وجدد المطالبة بلجنة تحقيق دولية، وبالمساواة بين جريمة اعتقال الشباب والجرائم الأخرى. وتمنى باسم الأمهات في عيدهن أن يعرفن مصير أبنائهن، عبر تسليم الأحياء منهم ورفات الشهداء، معاقبة المجرمين، والتعويض على الضحايا. وكانت الأمهات، في هذه الأثناء، يرددن الدعاء بألا يوفق الله المسؤولين عن مأساتهم، ويسألن عن أي دولة لبنانية يتحدث الزعماء في ظل حكومة لا تسأل عن أبنائها وتفضل شهيداً على آخر.
وفي حوارات جانبية، كان كنعان يؤكد لعائلة جنوبية أن التيار لن يتصالح أبداً مع سوريا قبل حل هذه القضية. فيما كان غازي عاد يشرح سرّاً لوالدتين تفاصيل زيارته إلى كندا وتأكده من تعامل السّلطات اللبنانيّة مع قضيتهم على طريقة الوعود الكلاميّة غير المستحقّة، من خلال تلمسه بوضوح أن غالبية المسؤولين الغربيين لم يسمعوا بـ«معتقلين في السجون السوريّة». وشاركت في اللقاء وفود جامعية وفي مقدمتها مجموعة عونية تطلق على نفسها «لجنة دعم أهالي المعتقلين» تحدث باسمها الطالب هادي سعيد، موضحاً «أنّهم أتوا ليقولوا للسيدات «ماما». ويؤكدوا أنّ الأسرى في السجون السورية هم الأساس الذي بني عليه التيار. وبين هذه وتلك، ترشف إحدى السيدات من فنجان القهوة، تجول بعينيها وسط الهامات، وتقول بوجه يكاد يخلو من التعابير «كل هذا دون معنى، حتى الاعتصام، الناس، الورود، الكلام دون معنى.. ما هكذا يكون العيد.. العيد ضمة من حبيبي». هنا مساحة أخرى للدموع.