strong>كامل جابر
  • أسعد خليل سلامة يحثّ على العلم ويحيّي المنتفضين على يوسف بك الزين
    لم يفِ أسعد خليل سلامة، ابن بلدة كفر رمان الجنوبية، بوعوده لأقاربه بالعودة إلى قريته ليختم عقوداً طويلة من الاغتراب قضاها في الأرجنتين. أودى حادث سير بحياته قبل أن يحقق هذا الحلم الذي كان قد وثّقه بعشرات الرسائل واحتفظ بها أقاربه جيلاً بعد جيل لتشكّل اليوم وثائق تاريخية يناهز عمرها مائة عام

    غادر أسعد سلامة قريته كفر رمان قبل الحرب العالمية الأولى بسنوات، ميمّماً وجهه شطر الارجنتين على متن إحدى البواخر، التي كانت حملت قبله أو بعده عدداً من إخوته وأبناء عمومته، وأبناء قريته والجوار. بعضهم عاد ليواصل حياته في قريته بعدما كوّن له “خميرة تسد خابية”، وبعضهم الآخر قضى حياته هناك وهو يروي لعائلته الجديدة التي كوّنها حلمه بالعودة يوماً إلى أرض الوطن.
    هذا على الأقلّ ما رواه أدهم أسعد سلامة وشقيقته غريبة حين عادا إلى كفر رمان في الذكرى الأولى لتحرير الجنوب في عام 2001 بحثاً عن رائحة والدهم وتراب الأرض التي لم يُدفن فيها “لطالما ردّد أمامنا أسماء أفراد العائلة، عاش يحلم بالعودة إلى بلدته، بيد أن الزواج والعمل وهموم الأولاد.. كلها سرقته من حلمه”. لكن أسعد كان قد وثّق لحلم العودة، مثلما وثّق تاريخ مرحلة الاغتراب التي عاشها، من خلال عشرات الرسائل التي أرسلها على امتداد سنوات اغترابه...
    في رسالته المحررة إلى شقيقه حسن، من بونخن بتاريخ 15 أيلول 1919 كتب أسعد: “...هذه المدة تسلّمت كتاب سعادة أفندينا يوسف بك الزين، وبه يحثنا على الحضور إلى الوطن، قسَماً بكم أنه يعزّ عليّ عدم تمكني من البراح (المغادرة) لكونه لا أخفيكم أنه في الوقت نفسه لنا كم غرش (قرش) دين عند العالم وإن شاء الله بأقرب وقت نحصل عليهم، وبعده يفعل المولى ما يشاء...”.
    وجاء في رسالة أخرى أرسلها من كانيا واسيكا في 29 شباط 1920 “أعرّفكم (أعلمكم) أنني بعد برهة مرادي الحضور لنحوكم إذ أمكنتني الظروف، كونوا براحة من هذا القبيل...”. يمرّ 12 عاماً على هذه الرسالة قبل ان يوضح في رسالة جديدة موقعة في 15 شوّال 1350 هـ (1932م) من مندوسا: “إن زواجي لا يعوقني يا أخي عن السفر مثلما ذكرتم في تحريركم، متى تهيّأ لي السفر كوني أخيّر النظر إليكم على ما تحت العرش قاطبة، على أن رغبتي بالمجيء لعندكم لا يحول دونها إلا الموت. كونوا براحة من هذا القبيل..”.
    رسائل أسعد لم تكن تخلو من نصائح لشقيقه حسن بتعليم ولديه معتبراً ذلك ثروة تفوق المال والأرض، فيخاطبه من مندوسا بتاريخ 16 آذار 1934: “لقد أحسنت عملاً بشرائك تلك الأرض التي حول دارك، غير أن تحصين الديار قد لا يكون بالمساحة الواسعة أو بتوفر الدراهم، بل عن طريق العلم...”. وقبل ذلك بـ 14 عاماً، كتب من الروفينو بتاريخ 15 ذي الحجة عام 1338 (1920) مبدياً حسرته لأنه لم ينهل المزيد من الدراسةوالتحصيل: “...ذكرتم سيدي عن نجلكم المحروس أنه بالقراءة، نسأل نجاحه، ونتمنى من علو همتكم ألا تدعوه يتهامل عن الاجتهاد في سبيل العلم... عندما سنحت لنا الفرصة تقاعدنا عن الامتثال لقول الراشدين وكم حثثتموني ولم أطع، والآن جنابكم أعلم وفكركم الثاقب أصيب (أصوب). إننا بعصر العلم ونوبة الذكاء ولا غرو من كان كجنابكم لا يمكن أن نبرهن له أنه على يقين بأن تنوبوا بما أقول وهو أن ترسل منيف إلى المدرسة بعد تلاوة القرآن الشريف”.
    وقد حملت معظم رسائل أسعد خليل سلامة، نمطاً كلاسيكياً اعتمده من الرسالة الأولى حتى الأخيرة. وهي تدلّ، على الأمكنة التي تنقّل فيها داخل الارجنتين: كاتيا واسيكا، مندوسا، الروساريو، الروفينو، توبونغاتو مندوسا، وصولاً عشية الخمسينيات من القرن العشرين إلى العاصمة بواينس أيرس.
    ولم تغب عبارات العتب عن مجمل الرسائل. هذه هي حال الأشقاء والأقارب، خصوصاً أن بعد المسافة، في غياب الوسائل الأخرى مثل الهاتف، كان يجعل النفوس تواقة إلى كل مصارحة، ويشعل رغبة الغوص في التفاصيل. هكذا نفهم رسالته المؤرخة 3 تشرين الثاني 1935 التي أرسلها من توبوننتو مندوسا: “إنما اكتب إليكم بدافع الشوق، نعم لقد مضت مدة من الزمن دون أن نعلم عنكم شيئاً، وأنتم أحق مني بالعتاب، لكوني أنا الذي قد بدا مني هذا الفتور وما كان ذلك والله سهواً أو فتوراً في المحبة، لكن الوحدة وكثرة الاشغال وهمّ العائلة.. تحول بعض الأحيان دون أن أقدم واجب هو من أقدس الواجبات، أي مكاتبتكم ومبادلتكم الأخبار”.
    وفي رسالة أخرى من توبونغاتو مندوزا في 26 تموز 1949، نقرأ بعض العتب ردّاً على رسالة كانت وصلته من يوسف بك الزين: “...أما عدم مكاتبة أولاد أخيكم لكم فهو انهماكهم في الأشغال وجهلهم القرآن والكتابة، كما عدم مكاتبتكم أنتم لهم، فلهذا السبب ليس إلا. لسعادة البك أن يقول ما يشاء وإن كان كذلك، أي أنني رجل أمي أيضاً كما تفضل، فهذا أمر يهمني ولا يهم أحداً سواي، وقد يكون بسيطاً بالنسبة لجهل الكتابة والقرآن في بلد ينضوي شبابه تحت لواء يوسف بك الزين ومتوافرة فيه أسباب التعليم...”.
    أما شؤون السياسة، فكان لها حيّز، بين الرسالة والرسالة، خصوصاً أن كفر رمان كانت تعيش في تلك المرحلة صراعاً بين العائلات الكبيرة و“الإقطاع” المستوطن فيها، المتقرّب من العائلات الصغيرة. وكانت السياسة بدأت تتغلغل بين الفلاحين الذين انتفضوا اكثر من مرة على ظروفهم.
    نقرأ في رسالة بعثها من توبونغاتو مندوسا 3 تشرين الثاني 1935: “اطلعت من بعض الجرائد الصادرة عن الوطن (على) احتجاج قد نمّقه البعض من أهل النبطية يتشدقون بمثل كلمة: فلاحو كفر رمان هاجموا دار يوسف بك الزين، روّعوا أطفاله، سرقوا ما وقعت عليه أيديهم من أثاث و... إلى غير ذلك مما أنزل الله به من سلطان... هيهات ان بدلوا بحجتهم أهل النبطية وبلونا على صفحة تثبت بأن فلاحي كفر رمان سرقوا يوماً ما أو أنهم سفكوا دماء بريئة يوماً ما، نعم لقد نهض أهل كفر رمان أخيراً بعدما بلغت منهم الأرواح الطواف مطالبين بحقوقهم الشرعية...”.
    وكان قد ورد في رسالة سابقة كتبها في بواينس أيرس، بتاريخ 24 آذار ـــ مارس 1925، عام وصول المياه بالأنابيب إلى النبطية وكفر رمان: “...أخبرتني أخي عن أنه سعادة يوسف بك الزين قد أحيا بحسن درايته أرضاً بعد موتها، وذلك بالماء التي أتى بها من مواضع وعرة، ونحن لم نحتج إلى دليل بأن سعادة البك من انتدبتهم يد القوة للعمل على رقي البشرية وكماله... وإليك بعض ما تناقلت عنه الصحف العربية فضلاً عن الافرنسية، قالت جريدة السلام: “حضر دولة حاكم لبنان وأكثرية أعضاء المجلس النيابي والنظار وكبار الموظفين وكثيرون من وجوه البلاد وأعيانها إلى منزل حضرة النائب يوسف بك الزين في قرية كفر رمان...”.
    وأرسل أسعد مرة نص كلمة ألقاها في نادي الجامعة الاسلامية بمناسبة عيد رمضان المبارك 1345 (1927) في “الروساريو” جاء فيها: “إن كان بعدنا عن الوطن حال دون اندماجنا في صفوف المجاهدين، فلا يسعنا والحالة إلا أن نصغي إلى نداء إخواننا الذين استبسلوا في ميادين القتال ونمدّهم بما يضمد جراحهم ويخفف ولو يسيراً من آلامهم. وإني أرى الآن أرواح الشهداء الذين أريقت دماؤهم ذوداً عن مجد أمتهم تحوم فوق رؤوسكم مستنهضة منكم حميتكم التي قد عرفتم بها...”.
    وعن نكبة فلسطين، كتب من توبونغاتو مندوسا في 17 حزيران 1949: “بينما وصلت إلى هذا الحد مسترسلاً في العتاب، وإذا بهاتف يقول رويداً يا هذا، أو لعل أولاد أخيك يكونون قد اندمجوا في سلك الجيش يوم نادى المنادي وأهاب بشباب الوطن للدفاع عن فلسطين المنكوبة، واستشهدوا مع من استشهد في ميادين الجهاد. وقد ترك هذا الكلام الذي لا أعرف مصدره أثراً عميقاً في النفس، قلت إذاً، فبذمة ملوك العرب وزعماء العرب تلك الدماء الزكية التي أهرقت في فلسطين على غير جدوى، ذلك لأن البعض من ملوك العرب قد ساقوا بسوء تصرفهم فلسطين وقسماً كبيراً من شباب العرب إلى المجزرة...”.


    نار الاشتياق حين تكوي

    لكن كثيرين ممن ودّعوا أحباءهم، اكتووا بنار الاشتياق. لم يحظوا برسائل تسكّن أوجاعهم، وفارقوا الحياة من دون أن يحققوا حلم اللقاء.
    هذه كانت حالة الجدة خديجة التي فارقت الحياة قبل عامين.
    لطالما رددت، نقلاً عن والدتها قبلها، حكاية والدها محمد حسن معلّم الذي غادر كفر رمان تحت جنح الظلام، هرباً من رجال “البيك” ولم يكن عمرها قد تجاوز الـ25 يوماً بعد. كان ذلك في عام 1910، تاريخ ولادة خديجة وفق ما تفيد به هويتها، إذ شهدت تلك الحقبة حركة هجرة من كفر رمان وجاراتها في قائمقامية النبطية نحو الارجنتين والمكسيك وأميركا اللاتينية.
    منذ ذلك الوقت، لم يعد أحد يعرف شيئاً عن ذلك الشاب الذي جعل وجهته “بواينس أيرس” عاصمة الارجنتين. في الفترة الأولى وصلت بعض أخباره تواتراً من رسل سافروا وعادوا، فيما لم يبادر هو إلى كتابة رسالة واحدة تطمئن الزوجة على مآل حياته في الغربة؛ لأنها لم تكن تجيد الكتابة. وتقول الروايات إنه ارتبط هناك بفتاة أرجنتينية ورزق منها بأبناء، أحدهم طبيب.
    كانت هذه آخر الأخبار التي سمعت عنه، بعدها لم يقف أحد على أيّ خبر عن محمد، الذي فرّ من أزلام الاقطاع، إلى “آخر الدنيا” بحسب الجدة التي عاشت وماتت وحيدة ويتيمة.