عبيه ـــ عامر ملاعب
واقع بلدة عبيه لا يشبه ماضيها في شيء، فالبلدة التي صنفت سابقاً مركزاً علمياً وثقافياً وروحياً منذ أن اتخذها الأمراء التنوخيون عاصمة لإمارتهم تنتظر على رصيف عودة المهجرين عند ميناء الوعود المؤجلة عودة أبنائها المسيحيين المهجرين قسراً عنها تاركين، إضافة إلى بيوتهم وكنائسهم، مراكز علم ومؤسسات تنموية ومشاغل نسيج ومزارع وعقارات تشغل ما يزيد على 45% من مساحة البلدة. أحد هذه المعالم، مدرسة لإعداد المعلمين أو المدرسة العالية الأميركية، وهي التي كانت نواة الكلية السورية الإنجيلية في بيروت (الجامعة الأميركية في بيروت) التي تأسست عام 1866.
ففي مطلع القرن التاسع عشر، هبّت على أميركا رياح انتعاش روحي، قامت به جماعة من الطوائف الانجيلية، وأسسوا لذلك مجمعاً في بوسطن (عام 1810) لمندوبي البعثات التبشيرية حمل بشارة الانجيل الى الوثنيين والامم والأقطار في العالم وخاصةً في الشرق. وبعدما لاقى هؤلاء المضايقات الكثيرة في مختلف المناطق اللبنانية المسيحية، اتخذوا من عبيه مركزاً لهم، لكونها في محيط منفتح إلى حد ما، غير مسيحي بالكامل ومعظم سكانه من الدروز.
في النصف الأول من القرن التاسع عشر، اتخذ المرسلون الأميركان من عبيه محطة لهم فأسسوا عام 1835 مدرسة ابتدائية وفي 1839 مركزاً طبياً، ثم اتفق العلامة كورنيلوس فانديك والمعلم بطرس البستاني مع نخبة من المثقفين على انشاء مدرسة لإعداد المعلمين أو «المدرسة العالية الأميركية»، وهذه كانت نواة الكلية السورية الإنجيلية في بيروت (الجامعة الأميركية اليوم) التي تأسست عام 1866. وكانت مركز إعداد للمعلمين على مدى عقود أربعة واستقطبت الطلاب من كل مناطق لبنان وبلاد سوريا، وكان لها الفضل في تخريج جمهرة من الأعلام الذين رفعوا راية النهضة الفكرية العربية ومنهم على سبيل المثال نعوم مكرزل، خليل سعادة، سليم الخوري، علي ناصر الدين، يعقوب صروف، جبر ضومط وغيرهم، ومثّلت حالة عصرية علمية يومها أسهمت في انتشار التعلم ومحو الامية بشكل واسع.
خرجت بلدة عبيه، وكل مراكزها، بعد الحرب منهكة ومدمرة ولم يبق من هذه الشواهد التاريخية إلا أطلال أبنية تنتظر يد أصحاب الشأن لتمتد وتنقذها من غياهب الاهمال والخراب، وهي المنطقة الوحيدة التي ما زال ملفها في وزارة المهجرين مغلقاً ولم يفتح بتاتاً الا على شاشات التلفزة وخطابات المنابر، ودائماً في انتظار المصالحات والأموال. ومعروف أن بلدة عبيه قد عُقدت مصالحات بين أهلها منذ أمد بعيد، ولا عائق أمام إنهاء الملف.
رئيس «جمعية إحياء التراث» نديم حمزة شرح لـ«الأخبار» عمل الجمعية الذي يهدف الى «المحافظة على تراث القرية من حيث هي عاصمة الامارة التنوخية وتحتوي المباني الاثرية الشاهدة على تاريخ مجيد وحقبة مهمة من تاريخ لبنان والمنطقة، وقد نظمت الجمعية العديد من النشاطات الفكرية والبحثية في سبيل اعادة الاعتبار الى هذه الصروح، وتحاول مع الجهات الرسمية وجمعية متخرجي الجامعة الاميركية، إيجاد دور جديد يشكل رؤية مستقبلية تنهض بالبلدة والمنطقة ثقافياً وعلمياً وتعيد ترميم ما تهدم، وأصدرت العديد من الكتب جمعت الابحاث والدراسات، وأصدرت كتاباً خاصاً عن «مدرسة عبيه الاميركية العاليه».
راعي الكنيسة الإنجيلية الوطنية القس حبيب بدر قال لــ «الأخبار» «إن البناء الموجود في بلدة عبيه أقدم بناء إنجيلي في لبنان، يعود تاريخه إلى عام 1846 ولذلك سنعمل على ترميمه بصورته الحالية وإبقائه على الطابع التراثي دون إدخال تعديلات جوهرية عليه». وأضاف «لم يبق اليوم من أتباع المذهب في عبيه أي شخص بحكم الهجرة، ومبنى الكنيسة سيرمم وإن بقي بدون مؤمنين، أما عن مبنى المدرسة فهناك اقتراح مشروع لتحويلها إلى مركز دراسات للتراث الإنجيلي يكون الأول في لبنان والمشرق العربي، وسيضم أكبر قدر ممكن من الأرشيف والمخطوطات، ووثائق تاريخيه عن الإرساليات والبعثات التبشيرية، ومذكرات المرسلين في القرنين التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بالإضافة إلى تاريخ الإنجيليين ومدرستهم في لبنان، وتوضع هذه المواد تحت تصرف الباحثين والمهتمين فتكون مركزَ سياحة دينية وثقافية وحيداً في المنطقة العربية فيما يخص طائفة الإنجيليين، ونأمل أن يكون بالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت».
وعن العودة أوضح بدر «أن العودة مرتبطة بالمصالحات في منطقة الشحار عموماً وبلدة عبيه خصوصاً، ودفع المبالغ المستحقة، وننتظر إنجاز هذا الملف إلا أن العمل جار مع جمعية التراث وأبناء البلدة من اجل انجاز عمل حضاري تراثي في منطقة عانت من ويلات الحرب، وهي عاشت العيش المشترك فترات طويلة من الزمن». وأبدى بدر عتبه على عدم «تحرك المراجع الرسمية المختصة، مثل وزارة الثقافة أو السياحة أو مديرية الآثار، من اجل المحافظة على صروح تاريخية شكلت ذاكرة وتكوّن لبنان منذ القديم».