نقولا ناصيف
منذ أيام يلزم الرئيس ميشال عون الصمت ما خلا ما يعلنه بعد الاجتماعات الدورية لكتلته النيابية، «تكتل التغيير والإصلاح». في 14 آذار حدّد موقفاً أول من انتخابات رئاسة الجمهورية هو نصاب الثلثين لالتئام مجلس النواب وانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، محذراً في الوقت نفسه من عاقبة المجازفة بخيارات معاكسة، أو التحايل على هذا النصاب، كذلك السعي إلى كسر إرادة المسيحيين في هذا الاستحقاق. وفي اجتماعات مع سفراء أعاد تأكيد موقفه من النصاب الدستوري لجلسة الانتخاب في المهلة الدستورية المقرّرة، الذي دونه تتعرّض انتخابات الرئاسة لخطر عدم إجرائها. بذلك يريد عون قطع الطريق على ما اعتبره اجتهادات يقودها البعض لإمرار الاستحقاق الرئاسي خلافاً للدستور والأعراف التي رافقته منذ عام 1943. وكان قد تناهى إليه أن بعض قوى 14 آذار يحاول الحصول على تأييد سفراء دول مؤثرة في لبنان في تحديد نصاب افتتاح جلسة الانتخاب بالأكثرية المطلقة للسيطرة على إجراء الانتخابات وإيصال مرشح من هذا الفريق إلى المنصب. لكن ما يسمعه من سفراء يترددون عليه هذه الأيام، هو تقليلهم في مواقفهم معه وفي تصريحاتهم المعلنة من الإطراء على حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وتركيزهم على دعم الحوار الداخلي والتوصّل إلى حل سياسي بين طرفي النزاع.
إلّا أن عون يبدو قاطعاً، في ظل ما يسميه تسيّب اللعبة السياسية وخروجها عن مقاييسها ومعاييرها، أن كلاً من قوى 14 آذار والمعارضة تذهب في خياراتها إلى المواجهة خارج سياق القانون تحت وطأة التصعيد السياسي المتبادل. يدعو عون ذلك «معادلة القوة» التي يستخدم فيها كل من الطرفين مصادر القوة لديه للردّ على الطرف الآخر، والمضي في مواجهة مفتوحة قد تكون غير محسوبة النتائج في استنزاف الوضع الداخلي.
«معادلة القوة» هذه يرى عون أنها قاعدة علاقته بـ«حزب الله» في سياق ورقة التفاهم التي وقعها معه في 6 شباط 2006، بديلاً من معادلة التمثيل المسيحي التي غالباً ما درج المسيحيون على الاقتداء بها. فالرجل، وهو يسترجع بضعة لقاءات كان قد أجراها في باريس إبان مرحلة النفي مع مسؤولين فرنسيين تأكد له أن المسيحيين اللبنانيين لم يعودوا ورقة تقليدية تاريخية يتسلح بها الفرنسيون في بسط نفوذهم في المنطقة، وأخذوا يتطلعون أكثر من أي وقت مضى إلى شركاء لبنانيين آخرين تقدّمت فاعلية تأثيرهم في لبنان. وقد لمس خلاصة مماثلة من زيارته الأخيرة إلى واشنطن قبل أعوام ولقائه في خمسة اجتماعات مع مسؤولين حاليين وسابقين في الإدارة الأميركية أن لبنان لم يعد بدوره مصدراً حيوياً للمصالح الأميركية في المنطقة، على نحو ما رغب فيه المسيحيون اللبنانيون وخبروه في عقود الخمسينات والستينات ومطلع الثمانينات. وهكذا أضحى من الضروري في تقويمه للدور المسيحي الخروج من الكيان في ذاته على أنه حاجة إقليمية، إلى التسليم بتحالفات حتمية للمسيحيين مع شركائهم اللبنانيين الآخرين من أجل بناء الدور والمشاركة.
تبعاً لذلك، يُدرج نظرته إلى المرحلة المقبلة في إطار معطيات، منها:
1 ـــــ أن البلاد دخلت في السباق إلى الرئاسة. وأياً تكن النتائج التي سيفضي إليها الحوار الدائر بين رئيس المجلس نبيه بري ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري، فإن توازن القوى الذي سينشأ عن هذا الحوار يرتبط بالطريقة التي سيقارب بها كل من الطرفين الاستحقاق الرئاسي. ويعرب عون عن خشيته من أن يكون تصاعد نبرة الخلافات الداخلية ينطوي على خلفية الانتقال من المواجهة على حكومة الوحدة الوطنية والمحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق رفيق الحريري إلى المواجهة على انتخابات الرئاسة الأولى.
2 ـــــ بعيداً من الكلام على ترشحه لانتخابات رئاسة الجمهورية، ومن دون الخوض في أمر يرى عون أن استحقاقه له مرتبط بسيرته السياسية، فإن تشبث الرئيس السابق للحكومة بنصاب ثلثي مجلس النواب ينطلق من قاعدة أن انتخاب رئيس للجمهورية ليس نصاباً عددياً، بل هو نصاب سياسي يرتكز أساساً وحتماً على قاعدة المشاركة. ويستشهد بقانون الانتخاب الفرنسي الذي يقرن فوز مرشح لمقعد نيابي في الجمعية الوطنية بالحصول، حداً أدنى، على نسبة 25 في المئة من أصوات ناخبي الدائرة، لكي يعبّر قياس تمثيل المرشح أو النائب عن الحجم الضروري لمشاركة الناخبين في الاقتراع من أجل إكساب الانتخاب رصيداً وطنياً. الأمر نفسه بالنسبة إلى انتخابات رئاسة الجمهورية التي يقتضي أن تعبّر بدورها ـــ يقول عون ــــ عن نسبة عالية من مشاركة الهيئة الناخبة في مجلس النواب، فلا ينتخب رئيس للجمهورية بأصوات قليلة، أو في غياب نواب طوائف رئيسية. وتقع في هذا السياق الأوراق البيضاء التي تمثل مشاركة في الاقتراع وتسليماً بالنتيجة على مضض، خلافاً للغياب الذي هو رفض لنتيجة الاقتراع. وهو إذ يرى نصاب الثلثين سقفاً لإدارة الاستحقاق الرئاسي، يلاحظ أن أي محاولة لتقليص هذا النصاب لإيصال رئيس للجمهورية بأصوات فريق سياسي ضد آخر «ليست إلا استيلاءً على السلطة» يرفضه وسيقاوم حصوله.
3 ـــــ يعتقد أن تفاوضاً مهماً يُنْتَظر أن يجري من الآن حتى حزيران المقبل بين القوى الرئيسية المعنية بتفاقم النزاع الإقليمي (وفي شق منها النزاع اللبناني). الأمر الذي يجعله يرجح استمرار الأزمة الداخلية تحت وطأة هذا التجاذب. يقول: «إذا اتفقوا فالخطر سيدهمنا، وإذا اختلفوا فسيدهمنا أيضاً. في الحالين، السلبية ستلاحق اللبنانيين، إلا إذا حصّنوا موقعهم الداخلي بتفاهم وطني يقيهم ما قد يتقرّر في الخارج».
4 ـــــ يضاعف عون حملته على حكومة السنيورة، وإن بدا مقتنعاً بعدم جدوى انتقادها لأسباب تتصل بأدائها: «لم تعد ثمة مرجعية للحديث والانتقاد السياسي. هناك حكومة لا تحترم الدستور، وتخالفه يوماً بعد آخر من غير أن يرف لها جفن. بل إنها تفاخر بارتكاباتها بالجرم المشهود. ترى أن عدم توقيع رئيس الجمهورية قراراتها يجعله معرقلاً لأعمالها. تقفز فوق الدستور وتريد من رئيس الدولة أن يجاريها في كل ما تفعل، وإلا فإن دوره سلبي ويعرقل انتظام عمل المؤسسات الدستورية. لم يعد الدستور مرجعاً، ولا الاعتراضات الشعبية. ولم يعد أمامنا إلا أن نتحوّل ميليشيات تقتطع أرضاً وتفاوض على حصتها. وهذا ما لن نسمح بحصوله».