حبوب ــ جوانّا عازار
«يا هلا يا هلا، نوّرتوا»... هكذا ترحّب جوزفين المعروفة بـ«زوزو» بكل من يطرق باب دار العناية التابعة لدير سيّدة النجاة في بلدة حبوب قضاء جبيل الخاصّ بالراهبات اللبنانيّات المارونيّات. وهي لا تكتفي بالاستفسار وطرح الأسئلة على القادمين، بل تؤدّي لهم رقصة الاستقبال والضحكة لا تفارق وجهها. «زوزو» واحدة من مئات المسنّين الذين يسكنون الدار. بعضهم عاجز، والبعض الآخر متروك، ومنهم من يسافر أولاده فيضطرّ إلى الابتعاد عنهم، ومنهم من لا يجد من يخدمه... تعدّدت الأسباب ومكان الإقامة واحديستقبل الدير مسنّين من لبنان وبلدان عربيّة عدّة مثل فلسطين، العراق، سوريا، أو حتّى أشخاصاً عاشوا في إفريقيا أو لندن، مثل «مايكل» اللبناني الأصل والمنفصل عن زوجته التي تعيش وأبناءه في لندن. مايكل يتكلّم اللغة الانكليزيّة بطلاقة ويفهم العربيّة قليلاً، وهو يصف المعاملة في الدار بالجيّدة، إلا أنّ الأكل الصحيّ الذي تقدّمه الدار لا يعجبه دائماً فهو يفضّل أحياناً أكل الوجبات السريعة. مايكل كشف أنّه يفضّل البقاء في لبنان لأنّ مناخه جميل فيما الطقس في لندن بارد جدّاً. بدورها، «ناهيل» وعمرها 75 سنة، تقول إنّها مرتاحة في دار العناية، حيث تسود «المعزّة» بين الجميع. ناهيل كانت تعمل في الخياطة وتعاني الربو. لجأت الى الدار بعد موت زوجها، وبما أنّه لا أولاد لديها تتكفّل ابنة أختها دفع المصاريف عنها وتزورها مرّة في الشهر. وهي لا تخفي قلقها من عدم التمكّن من دفع ما يتوجّب عليها شهريّاً. ناهيل تتقاسم الغرفة مع سيّدتين هما روزين التي كانت تعمل ممرّضةً، وجميلة وعمرها 106 سنين وهي محبّة للحياة، تغنّي وتضحك باستمرار.
إنّها عيّنة من نحو مئتي شخص تضمّهم الدار ويتوزّعون بين رجال ونساء، ويبلغ عدد النساء نحو 130. الأعمار متفاوتة لكنّ الغالبيّة أعمارهم فوق سبعين سنة، ومن اللافت وجود نحو أربعة أشخاص تراوح أعمارهم بين تسعين ومئة سنة، أو حتّى أكثر من مئة سنة، مثلما هي حال عجوز أرمنيّة توفّيت منذ سنتين وهي من مواليد عام 1896.
حكاية الدار بدأت عام 1975 في بلدة حريصا، من مأوى سيّدة لبنان وميتمها الذي كان يضمّ نحو 40 عجوزاً فضلاً عن عدد من الأطفال. كان الجوّ أخويّاً إلا أنّ المكان لم يعد يتّسع للجميع، فبقي الأطفال في حريصا وأتى المسنّون الى حبوب برفقة الراهبات حسبما شرحت المسؤولة عن دير سيّدة النجاة في حبوب الأخت جورجيت أنطون.
في دار العناية نحو مئة غرفة للنوم، في كلّ منها جهاز تلفزيون، إضافة الى صالات فيها أيضاً أجهزة تلفزيون يجتمع فيها المسنّون للأكل والتحدّث ولعب الطاولة... هنا يتكلّم المسنّون عمّا يشغل بالهم، فيكثر الحديث عن الأولاد، عن وضع البلد وحتّى عن السياسة... ولعلّ أبرز ما يلفت النظر هنا كلام «نجيب» المتابع بدقّة للأوضاع السياسيّة في البلد، وأبرز ما يثير اهتمامه مشكلتا الهجرة المتزايدة والبطالة اللتين يعانيهما الشباب اللبناني، وتبقى أمنيته أن يتحسّن وضع البلد فلا يضطرّ أبناؤه إلى أن يتركوه، وأن يتمتّع الشباب بمستقبل زاهر. فيما تتذكّر «آنّا» التي يناهز عمرها مئة سنة، أخبار الحرب العالميّة الأولى، وهي التي يصعب فهم كلّ ما تقوله، إذ تخلط اللغتين الإيطاليّة لكونها إيطاليّة الأصل والعربيّة. آنّا أنيقة كمعظم النساء الإيطاليّات وتحبّ التحدّث الى الزوّار. ويستمتع المسنّون القادرون على المشي بفرصة الخروج للأكل في مطعم خارج المأوى نهار الخميس من كلّ أسبوع. ويشارك نحو 100 مسنّ في القدّاس الإلهي الأسبوعي الذي يُقام في الدير نهار الأحد عند التاسعة والنصف صباحاً.
الراهبات في الدير، وعددهنّ 17، إضافة الى متدرّبات جديدات، يعترفن بأنّ الله مسؤول عن المسنّين مباشرة ولا يتركهم، فيأتي إليهم محسنون يساعدون كلّ على طريقته وحسب قدرته.
ويبقى همّ الدار أن يعيش المسنّون خريف عمرهم بكرامة.