إبراهيم الأمين
ينتقل ملف التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري الى مرحلة جديدة بعد التقرير الأخير لرئيس اللجنة الدولية القاضي سيرج براميرتس، الذي حفل بأمور متنوعة أبرزها تقديمه الاعتبارات السياسية للجريمة على ما عداها من دوافع، الأمر الذي ترجمته أوساط فريق الاكثرية بأنه يحمل مدلولاً إضافياً على تورط سوريا في الجريمة انطلاقاً من القول إن دمشق كانت تمثل صورة الخصم السياسي لرئيس الحكومة الاسبق، وإن اغتياله تم في سياق المشكلة بينه وبينها، وهو ما جعل البحث في ملف المحكمة الدولية ينتقل عند هؤلاء من مرحلة البحث عن تسويات ضمنية توفر إقرار المحكمة بأسرع ما يمكن الى القول بأن اقرار المحكمة يجب أن يتم بدون تأخير وبدون تعديل أيضاً، الأمر الذي برز جلياً في كل المواقف التي أطلقها أركان الاكثرية خلال الفترة القليلة الماضية.
ومع أن الجانب الاميركي كان حريصاً في الفترة الاخيرة على التزام قدر مرتفع من الصمت حيال السجال القائم، إلا أن الجانب الفرنسي لم يكن خارج الصورة، بل يجمع المطلعون على أن قادة فريق الأكثرية تلقوا التعليمات الحاسمة بالمضي قدماً في معركة إقرار قانون المحكمة دون مراعاة أحد خلال لقاءاتهم مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك في العاصمة الفرنسية، وهو الموقف الذي أدى عملياً الى إحباط مساعي الحوار الذي كان قائماً بين الرئيس نبيه بري والنائب سعد الحريري، علماً بأن المصادر الفرنسية الرسمية وغير الرسمية ترغب في القول إن فرنسا تدعم الحوار وهي تريد التوصل الى تسوية، لكن لديها موقفها من بعض المسائل ومنها المحكمة الدولية ودور المؤسسات الدستورية في لبنان.
وإذا كان الكلام التمهيدي قيل في جلسات الحوار نفسها ومن ثم في “استعراض نواب 14 آذار في المجلس النيابي” فإن إشارة العمليات أذاعها الرئيس فؤاد السنيورة الذي استجدت ملامح القوة في وجهه وهو يقول إنه بات في حل من تعهد سابق للأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى بعدم إحالة مشروع قانون المحكمة الى المجلس النيابي. لكن الأهم في ما قاله السنيورة هو أن من يربط إقرار المحكمة الدولية بتوفير حل للأزمة الحكومية إنما هو من يقوم بتسييس الملف. وفي هذا اجتهاد لم يسبقه إليه أحد، إذ إن رئيس الحكومة يعتبر أن التسييس قائم بمجرد أن طالب أحد بمناقشة مشروع المحكمة أو طالب بوقت لإجراء هذا النقاش.
لكن هل التسييس غائب عن كل ملف جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري؟
حتى اللحظة لا يعرف الناس إلا ما يجري من تحقيقات تقوم بها لجنة التحقيق الدولية وفريق القضاء اللبناني، علماً بأن اللجنة الدولية تقدم تقارير دورية فيما يمتنع القضاء اللبناني عن تقديم أي معلومة منذ بدأت التحقيقات. لكن ذلك لا يمنع من يريد أن يعرف الكثير عن ملف التحقيق، علماً بأن وسائل الاعلام التابعة لفريق 14 آذار، وقادة هذا الفريق السياسيين، لم يتوقفوا يوماً عن إذاعة ما اعتبروه حقائق دامغة وأدلة قاطعة على تورط هذا أو ذاك من الاشخاص أو القوى التي تربطها علاقة بسوريا. وإن تفاصيل الملف وما تلاها من عمليات تدقيق من جانب لجنة التحقيق نفسها او من قبل القضاء اللبناني أظهرت عمليات التزوير الفاضحة والتضليل الذي أدى القه الى توقيف من هم الآن قيد التوقيف، إذ ليس صدفة أن أحداً من الموقوفين او من وكلاء الدفاع عنهم او من يتابع ملفهم لم يسمع حتى اللحظة كلمة واحدة تعد دليلاً أو عنصراً اتهامياً، كما لم تتم مواجهة أي منهم بالآخر أو بأي شاهد من الذين جرى طبخهم بواسطة فريق الاكثرية وبمشاركة مسؤولين يتولون مواقع امنية حساسة اليوم. حتى إن المداولات التي يقوم بها وكلاء دفاع بعض الموقوفين ولا سيما المدير العام السابق للأمن العام اللواء جميل السيد كشفت عن منسوب سياسي صرف في الاسباب الموجبة لاستمرار التوقيف. وليس خافياً على أحد أن مراجع سياسية من فريق الموالاة والمعارضة سألت المرجعيات القضائية المعنية عن حقيقة ما يجري، وكان الجواب في غالب الأحيان أن هناك مبررات تدفع لإبقاء الموقوفين في السجن. ومع أن وكلاء السيد نجحوا في الحصول من لجنة التحقيق الدولية على جملة مواقف ورسائل تنزع صفة المشتبه به عنه اولاً ثم تعلن أنه معتقل وليس موقوفاً ثم تترك أمر البت بمصيره الى القضاء اللبناني، فإن هذه الخطوات لم تترك أثرها عند فريق التحقيق اللبناني الذي سبق أن قال تلميحاً ثم تصريحاً إن أمر التوقيف مرتبط بما سبق أن صدر عن لجنة التحقيق الدولية برئاسة ديتليف ميليس من توصية بتوقيف السيد والآخرين بشبهة تورطهم في الجريمة واستناداً الى إفــــادات شهــــود تبيّــــن مـــع الوقـــت أنهم غير ذوي صدقية.
لكن الجديد في هذا المجال ما كشفته مصادر مطلعة عن اتجاه لدى قوى سياسية الى مناقشة آليات التحقيق من زاوية التأكيد على أن التسييس قائم منذ اللحظة الاولى من قبل فريق 14 آذار، وأن هذه القوى تمارس الضغوط لمنع إطلاق سراح الموقوفين لأنها ترى فيهم خصماً سياسياً وترى في إطلاقهم نصراً سياسياً لخصومها السياسيين، علماً بأن الفريق القضائي يرفض اتهامه بالخضوع لضغوط ويقول إن لديه ما يبرر استمرار هذا الوضع، لكن ما هو اكثر وضوحاً بنظر المعنيين وبنظر الرأي العام أيضاً هو أن الضغط القائم حالياً من جانب الادارة السياسية المشرفة على الحل في لبنان يأخذ في عين الاعتبار إبقاء الموقوفين باعتبار انه ليس لدى لجنة التحقيق الآن من عناصر سوى هؤلاء الموقوفين، وان إصرار براميرتس على رفض التقدم بأي أسماء تحت اسم مشتبه بهم أو متهمين يقفل الباب أمام الاستثمار السياسي والإعلامي الذي يحتاج إليه فريق 14 آذار في لبنان وتحتاج إليه فرنسا والولايات المتحدة الاميركية من جهة ثانية، في إطار الضغوط المستمرة على سوريا وقوى لبنانية اخرى.
ومع أن فريق المعارضة لا يقارب هذا الملف بقوة حرصاً منه على عدم توسيع دائرة التسييس، إلا أن فريق 14 آذار وموقف الرئيس السنيورة يعكس الرغبة في تجاهل كل أنواع الاعتبارات وجعل الأمر رهن المناخ الذي ستقوم في ظله المحكمة الدولية، حيث هناك من ينشط بقوة لجعل إقرارها أولوية تتقدم على أي شيء آخر في لبنان والمنطقة... للجنون فنون!