إبراهيم الأمين
الصورة كما هي في الرياض تشير إلى أن الفشل في إنجاز توافق لبناني ــــــ لبناني على أساس المبادرة السعــــودية ــــــ الايـــــــــرانية، يفرض العودة الى الغطاء العربي المتمثل بالجامعة العربية. لكن هذه العودة لا تلغي إمكان استمرار المساعي السعودية من جهة، والدعم الإيراني لها من جهة ثانية. وثمة تباين في فهم الموقف من قبل الأطراف اللبنانية بصورة تعيد الى الأذهان فكرة التذاكي بقصد الحصول على نقطة هنا أو نقطة هناك.
من جانب الفريق الأكثري بدت الصورة قاتمة على اثر المؤتمر الصحافي لرئيس المجلس النيابي نبيه بري، وارتفع منسوب التوتر بعد الموقف الذي صدر تكراراً وعلى يومين من جانب السفير السعودي في بيروت عبد العزيز خوجة، ولا سيما أن الاتصالات أظهرت أنه موقف لا يخص السفير نفسه، بل إن مرجعاً معنياً يشير الى كلام وصله بصورة واضحة ومفاده أن ما أعلنه خوجة يمثل وجهة نظر الجهات العليا في المملكة السعودية، وأن الملك عبد الله نفسه في أجواء ما حصل الى جانب وزير الخارجية الـأمير سعود الفيصل. وربما فسّرت هذه المعلومات سلوك تيار “المستقبل” ووسائل إعلامه ازاء مؤتمر بري من جهة وإزاء موقف السفير السعودي نفسه، لأن المداولات التي لم تعلن في حينه أظهرت أن الرياض لم تعلن موقفها المتضامن مع ما أعلنه بري فحسب، بل سارعت الى إبلاغ آخرين انزعاجها من سلوك قوى في فريق 14 آذار.
وبرز اللوم واضحاً إزاء النائب وليد جنبلاط، الذي حاول خلال الساعات التي تلت موقف خوجة، الاتصال والاستفسار مباشرة ومن خلال مساعدين له يتولون عادة الاتصال بالجانب السعودي.
ولما شعر بأن هناك من يصدّه سارع الى إرسال النائب أكرم شهيب “مقتحماً” منزل السفير السعودي بغية الحصول على توضيحات وتقديم مقابلها بما يعيد الأمور الى نصابها، ولا سيما أن موقف جنبلاط لم يقتصر على إبطال مفعــول ما جرى من حوار بين الرئيس بري والنائب سعد الحريري، بل تجاوزه الى إظهار قلة اكتـــراث بما يقدمه الحريري من التزامات. وهو أعطى إشـــارات انزعاج في مقابلة أجراها مع هيئة الإذاعة البريطانية قبل أن تتســــارع الاتصالات لمنع توسع سوء التفاهم وتمدده باتجاهات مساحات إضافية، فقام الوزيـــران غازي العريضي ومروان حمادة والنـائب السـابق غطاس الخوري بالجهد اللازم (وهو جهد غير كبير بالمناسبة) لوصل جنبلاط والحريري في جلسة مصارحة عقدت في قصر قريطم، وتخللها توافق على قاعدة المصالح المشتركة التي توجب برأي جنبلاط عدم التساهل في الحوار مع بري.
وإذا كانت هناك من تفسيرات عدة لموقف جنبلاط وحليفه قائد “القوات اللبنانية” سميـــــر جعجع من أصل الحوار القائم، سواء لناحية أنه يدور بين مرجعيتين تثبتان قاعدة سياسية تقول بأن القرار في لبنان مبني أساساً على اتفاق أو اختلاف السنة والشيـــعة، وأن من بيده القرار أو من بيده التفويض من الجانبـــين لا يمثل الثقل التقليدي في اللعبة السياسية المحلية، وصولاً حد القول إن جنبلاط وجعجع مثّلا في هذه اللحظة السياسية مركز جبل لبنان التقليـــــدي الذي لا يمكنـــــه القبول بتسليم أمر البلاد الى مندوبي الاقضــــــية التي شكلت على الدوام ملحقاً بدولة لبنان الأصلية، أو كما قدمها الاستعمار سابقاً، وبالـــــتالي فإن أي حــــــــل مركز لا يمكن أن يتم تجاوزاً للمواقع الدرزية والمارونية التي تمثل قلب لبنان.
لكن اللافت في هذه المقاربة، أن ما كان مفيداً في حوارات بري والحريري لناحية تخفيف التشنج القائم بين السنة والشيعة على الارض، ويمثل في مكان ما تفهماً لخشية سعودية ــــــ إيرانية من تمدد الصراع المذهبي نحو لبنان ومنه الى بقية دول المنطقة، فإن هذا الأمر ليس محل ترحيب لدى جنبلاط وجعجع، باعتبار أنهما يعتاشان من الصراع القائم الآن والذي له عنوان مذهبي، لأن الأول يعتقد أن بمقدوره احتلال موقع القيادة للسنة في لبنان بعد غياب الرئيس رفيق الحريري، فيما يعتقد الثاني بأن مثل هذا التوتر يتيح التخلص من الآثار الإيجابية للتفاهم بين “التيار الوطني الحر” و“حزب الله”، ويعيد الجمهور المسيحي الى موقع الخائف من سيــــــطرة الآخرين على قرار البلاد، ويعرض عليهم المقايضة التقليدية والخطيرة التي تقول بأن الدور الريادي للمسيحيين لا يمكن أن يقــــوم إلا على قاعدة ثنائيـــــة تتم مع طرف من الطرفين المسلمين، وأن العلاقة مع ســــنة لبنان اليوم أقرب الى الطموحات التقليدية للمسيحيين اجتماعياً وسياســياً واقتصادياً.
لكن إبطال المهمة الحوارية بين بري والحريري لا يمكن أن يعيش من دون بديل، لأن الذهاب نحو المواجهة الشاملة يتطلب عدة من نوع مختلف، وليس في الأفق ما يشير الى جهوزية أميري الحرب للتصدي لها الآن، كما أن المناخ العربي والدولي وإن كان لا يضغط كفاية نحو حل حقيقي إلا أنه لا يغطي في هذه اللحظة المضي قدماً في لعبة التوتر نحو مواجهة شاملة، وهو ما أتاح الفرصة للراعي الخارجي لأشرار 14 آذار لكي يضع قدمه، وهو الفريق الذي له من يمثله في فرنسا جاك شيراك وأميركا جورج بوش، وله أنصاره في المنطقة العربية ولا سيما في السعودية، حيث لا يخفي الامير بندر بن سلطان وجهة نظره التي تقول ان من يريد تجنّب “شر إيران النووية أو الشيعية عليه ألا يهمل ما يجري في لبنان وسوريا”.
وقد وفرت هذه القوى المناخ المطلوب لفريق 14 آذار للسير قدماً في المواجهة، إلا أن الأمر ظل رهن البحث عن بديل، ولم يظهر بين أوراق الساحر سوى إحياء مبادرة عمرو موسى، الأمر الذي حاول الرئيس فؤاد السنيورة إنعاشه من زاوية الكلام عن أن الاوراق الوحيدة التي جرى التوافق عليها مع فريق 14 آذار هي الاوراق التي كتبها موسى، وأن مصير مشروع قانون المحكمة الدولية ظل رهن ما يقوم به عمرو موسى، حتى إن أحد المقربين من السنيورة فسّر كلامه عن أنه بات في حل من تعهده لموسى بعدم إحالة مشروع المحكمة الى المجلس النيابي، بأنه تجديد للعرض بتجميد مشروع المحكمة شرط العودة الى مساعي الجامعة العربية.
لكن... ماذا لو عدنا إلى مبادرة عمرو موسى؟