رشا أبو زكي
الفاتورة الصحية في لبنان تراوح بين 11،5 في المئة و 12 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، لتصبح ثانية أغلى فاتورة في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية. فيما يحتل لبنان المرتبة 97 من حيث المؤشرات الصحية... تناقض غريب في بلد يموت أبناؤه على أبواب بعض المستشفيات!

الدخول الى متاهات الوضع الصحي في لبنان والمؤشرات المتعلقة به، مغامرة. لا بل يراها البعض انتحاراً. فالروح المافيوية تحكم العلاقات بين أقطاب النظام الصحي. خلل غريب يبدأ من وزارة الصحة، ليمر بحلقات المستشفيات والاطباء والمستوردين والصيادلة والمؤسسات الضامنة، وصولاً الى المواطن. أرقام متضاربة تبلغ حد التناقض. فضائح تنساب الى جميع القطاعات الصحية بنسب متفاوتة، وبتأثير مضاعف على الكلفة الاستشفائية في لبنان، وعلى فاتورته الصحية. بعض السماسرة في الوزارة. تجار يحتكرون سوق الدواء. فاتورة مستشفيات مضخمة وأحياناً وهمية. بعض الأطباء يتواطأون مع شركات الادوية، بعض الصيادلة تحولوا تجاراً، ومؤسسات ضامنة تستقبل الفساد ولا تردعه. أما السياسيون فمهمتهم حماية سلسلة الفساد والفاسدين لدواع سياسية وأحياناً طائفية!. وفي الدائرة الحلزونية هذه، يدفع المواطن أكثر من نصف نفقاته على الصحة، وتدفع الدولة أموالاً باهظة لتمويل الفساد. تقدم «الأخبار» سلسلة تحقيقات عن الشبكة الصحية وأطرافها. الحلقة الاولى عن الفاتورة الصحية ووزارة الصحة والمستشفيات. فمن أين نبدأ؟.

الإنفاق الصحي: الدراسات مخطئة!

انتقد البنك الدولي في تقرير ضخامة الإنفاق الصحي في لبنان الذي بلغ نحو 12.4 في المئة من الناتج الاجمالي المحلي، ووصف البنك الفاتورة الصحية بأنها الأعلى في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، لافتاً الى أن أكثر من من 60 في المئة من الإنفاق الاجمالي للأسر على الصحة، ويسيطر على الخدمات الصحية قطاع خاص غير منظم يدير نحو 90 في المئة من المستشفيات، و83 في المئة من المراكز الصحية، اما مقاييس جودة الرعاية الطبية فما زالت متواضعة جداً.
لكن وزير الصحة العامة المستقيل محمد جواد خليفة، يرى أن «الفاتورة الصحية تكلف مليار دولار أميركي فقط. وأن المواطن اللبناني يحصل على خدمات صحية مميزة، اضافة الى سرعة تقديم هذه الخدمات». ويقول «ظهرت دراسات تقول إن الفاتورة الصحية في لبنان مرتفعة، وهذا خطأ، فالخدمات «حقها مصاري»، ونحن من ارخص الدول في العالم من حيث أسعار الخدمات الصحية». وينتقد ما تشير اليه منظمة الصحة العالمية من أن المؤشرات الصحية لا تتناسب مع حجم الإنفاق، قائلاً: «لا دراسات حقيقية في لبنان ليتم الاستناد إليها. وفي ما يتعلق بالمؤشرات الصحية، أي نسبة الوفيات عند الامهات وحديثي الولادة، فهي ليست من مسؤولية وزارة الصحة بل وزارتي التربية والاقتصاد». لكن ماذا عن تقرير البنك الدولي؟ يقول خليفة انه استطاع اقناعهم بأن ما اعلنوه خاطئ وقاموا بتصحيح خطئهم، «اذ ثمة معلومات في التقرير في غير موقعها. ولذلك تبنوا خطة الوزارة في البرنامج الاقتصادي للحكومة في مؤتمر باريس ـــ 3». ورأى أن «المؤشرات الصحية متدنية لأن المواطن غير مثقف ولا يهتم بصحته». أما النائب اسماعيل سكرية فيقول إن «الفاتورة الصحية ترتفع بسبب فوضى التنسيق بين كل روافد القطاع الصحي، ويتحمل المسؤولية الاساسية وزارة الصحة. إذ انسحب الخلل فيها الى المؤسسات الضامنة في ظل غياب الرقابة».
ويشير تقرير منظمة الصحة العالمية إلى أن لبنان هو في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الاميركية، من حيث فاتورته الصحية المرتفعة، فيما مرتبته 97 من حيث سرعة تقديم الخدمة الصحية عند الضرورة وبالنوعية المطلوبة وبعدالة بين المواطنين.

الوزارة بين المديح والفساد

يقول خليفة إن الوزارة باشرت برامج صحية في مناطق فقيرة في الشمال، وإنها تقدم ادوية للأمراض المزمنة الى 250 الف مواطن، ويضيف: «البلد مش عاطلة». وإن لدى الوزارة عدداً من «المشاريع الاصلاحية المهمة. منها انشاء مراكز طبية أولية وإصدار البطاقة الصحية الموحدة».
ويرى خليفة ان وزارة الصحة «غير معنية بالادوية التي دخلت الى لبنان مساعدات خلال الحرب، إذ إن 20 في المئة من مساعدات الحرب جاءت الى الوزارة، و 80 في المئة الى الجمعيات وجهات سياسية، لكن الوزارة لا تستطيع مراقبة مستوصفات «القوات اللبنانية» و«تيار المستقبل» و«حركة أمل» و«حزب الله»، رغم معرفتها ان بعضهم باع الادوية واستخدمها». ويتابع «هذا موضوع انتهى من زمان»، موضحاً أن «الدول تبعث بأدوية تاريخ صلاحها يغطي فترة الأزمة فقط، والمواطن لن يشتري دواء منتهي الصلاح». ويشير الى انه عند وصول المساعدات في الحرب كانت الوزارة مشغولة بالكثير من الامور، منها تقديم العناية الطبية للجرحى والمصابين». ويشدد على أن الوزارة «غير معنية بقضايا الفساد، وهي تحاسب الفاسدين إن وجدوا في الوزارة، وتقوم بعملها تبعاً لإمكاناتها».
لكن النائب اسماعيل سكرية يقول ان «قلعة الفساد وحصنه هي وزارة الصحة، فهي «مغارة علي بابا» التي تورط من هو مستعد للدخول الى عالم الفساد، أو تحميه». ويقول: «اذا أراد التاجر تسجيل دواء في الوزارة، يدفع بين 8 و10 في المئة من سعر شحنة الدواء الى الاداري لتسريع معاملات التسجيل». ويضيف «كما تخص الوزارة، مثلاً، احد المستشفيات بموازنة مليار ونصف المليار ليرة، في شهري حزيران وأيار. ينتهي المبلغ بسبب الفواتير الوهمية والمضخمة، ويبدأ المستشفى باطلاق الانذارات بأنه لا يستطيع استقبال مرضى وزارة الصحة، عندها تدخل الوزارة مع المستشفى في تسوية، وتبدأ الفواتير المضخمة من جديد». ويلفت سكرية الى ان «الوزارة، على سبيل المثال، تحدد لمستشفى الجامعة الاميركية سقفاً مالياً بـ 4 مليارات ليرة، فيما مستشفى صغير جداً في احدى المناطق يأخذ 3 مليارات ليرة، والسبب سهولة اقتسام المبلغ، فالاداري يأخذ حصته، والمستشفى يشغّل أسرّته بمرضى وهميين، وفواتير وهمية، وتزوير لتوقيع الأطباء».
ويتابع: «اخطر انواع الفساد الذي يتعلق بالأكاديميين، ومنهم مندوبون في اللجنة الفنية في الوزارة. فمثلاً، يوافق بروفسور على دخول صنف من الادوية الى السوق ولا يسمح بإدخاله الى مؤسسته الطبية، في مقابل منحه 200 مليون ليرة للقيام ببحث علمي». ويطلق سكرية على هذا النوع من العمولة تسمية «بخشيش بامتياز». ويختصر قائلاً «بعض الاطباء فاسدون، ومعظم المستشفيات فاسدة، وبعض الاداريين والسياسيين يغطون الفساد». ولا يضع اللوم كله على الوزراء المتعاقبين «إذ انهم يصطدمون دائماً بالحائط الطائفي السياسي، اذا قرروا اقالة موظف فاسد».
ويقول نقيب أصحاب المستشفيات سليمان هارون إن «الفاتورة الصحية تبلغ ملياري دولار أميركي، ولا اعرف اذا كان هذا الرقم صحيح، لكن الاكيد أن الفاتورة الاستشفائية 600 مليون دولار أميركي، فأين المليار والنصف التي تصرف؟. نحن نقدم فواتير موثوقة عن كل مريض يدخل الى مستشفى. فليعلن الجميع أرقامه».

المستشفيات بين «التفريخ» والنوعية

تشير دراسة «أثر الكلفة الصحية على حق المواطن بالرعاية الصحية» الى أن إنفاق الوزارة على الاستشفاء بلغ 75 الى 85 في المئة من نفقات موازنتها. وتلفت دراسة «الاسترداد الضريبي المستدام في لبنان 2005» الى ان الوزارة تنفق أكثر من 70 في المئة من موازنتها على الاستشفاء.
ويقول خليفة إن المشكلة الاساسية في ارتفاع فاتورة المستشفيات المتعاقدة مع الوزارة تعود الى «عدم وجود مراكز رعاية أولية. إذ يذهب المواطن الى المستشفى لتلقّي العلاجات الاولية بعكس ما يحصل في كل دول العالم. والوزارة تعمل على دعم المستشفيات الحكومية وافتتاح مستشفيات جديدة، اضافة الى وقف الإهدار وضبط الانفاق عبر اساليب عدة». ويتابع: «لا نريد أن نثير ريبة المستشفيات الخاصة، فالحكومية ليست بديلاً منها بل هي مكملة لها». ويلفت الى أن «المستشفيات الخاصة الصغيرة وغير الفاعلة موجودة، لكن الوزارة فسخت التعاقد مع 15 في المئة منها. وينقل جزء من هذه التعاقدات الى المستشفيات الحكومية». لكن تقرير وزارة الصحة الى رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة في 2005، يشير إلى غلبة الأحجام الصغيرة (أقل من 70 سريراً) على المستشفيات العاملة. ففي عام 2005، كانت المستشفيات التي لا يتجاوز عدد أسرّتها سبعين سريراً نحو 72 في المئة، وتلك التي يراوح عدد أسرّتها بين 71 و200 سرير نحو 22 في المئة، فيما لا يتعدّى عدد المستشفيات التي تحتوي 200 سرير وما فوق 6 في المئة.

المناورات الاحتيالية

يشدد سكرية على أن ارتفاع فاتورة المستشفيات مردّه إلى تضخيم الفاتورة الاستشفائية، لتحصيل مبالغ مضاعفة من المرضى والمؤسسات الضامنة ووزارة الصحة. كل ذلك بفواتير وهمية لإقامات وهمية أيضاً في المستشفى. اضافة الى أعمال طبية غير ضرورية، والتلاعب بأسعار المواد المستخدمة في الطبابة، بدءاً بالخيط المستخدم في العمليات الجراحية، وصولاً الى الادوات الطبية. ويكشف عن فضيحة: «هناك مستشفى في احدى المحافظات، يقول إنه عالج في شهر واحد خلال فترة الصيف 10 آلاف منتسب الى الضمان الاجتماعي، وبعد التأكد من الحالات تبين أن 7 آلاف و300 مضمون دخلوا الى المستشفى يومي السبت والاحد، حين لا يعمل مراقبو الضمان. وتبيّن أن غالبيتهم مرضى وهميون». ويشير الى أن «إحدى دوائر النفوس كانت تبعث بالهويات الى أحد المستشفيات، فيقوم المستشفى برفع فواتير وهمية الى الضمان والوزارة». ويتابع: «هناك سوء نية عند بعض المستشفيات، وسوء مراقبة من الضمان». ويشير سكرية الى أن «المستشفيات تصنف بين جيدة جداً وهي الاقلية، وصولاً الى الدكاكين التي تتزايد لكون هذا القطاع يدر الكثير من الارباح». ويلفت الى أن «تركيبة النظام اللبناني تنحاز الى القطاع الخاص ضد العام، نتيجة الحسابات الطائفية والسياسية. والمافيات بالمرصاد لوقف اي عملية انشاء مراكز صحية اولية، ولعدم دعم المستشفيات الحكومية على حساب الخاصة». لكن هارون يشير الى أن «الكلام على مستشفيات «دكاكين» غير مسؤول. وأن الفواتير المضخّمة محدودة جداً «وإلا فلتُكشف اسماء هذه المستشفيات»، لافتاً الى «أن قطاع الاستشفاء صورة عن البلد وليس منزهاً عن الفساد، لكنه منضبط أكثر من القطاعات الاخرى».

إستشفاء للمقتدرين

يقول وزير الصحة السابق كرم كرمن إن ثمة «مناورات اخرى تقوم بها المستشفيات، حيث تزيد استخدام الوسائل التشخيصية والشعاعية، وتدفع المرضى الى استعمال هذه الوسائل بغية تسويقها وزيادة العائدات من تشغيلها». ويتحدث عن «اسراف في فترة الاقامة في المستشفى». ويشير كرم الى أن «الخدمات الاستشفائية المميزة لا تقدم إلا للمقتدرين». ويتابع «الوزارة تتعاقد مع المستشفيات الخاصة ولا تدعم المستشفيات العامة، وتتأخر في صرف اعتمادات الأخيرة. كذلك تتدخل السياسة في موضوع الدعم، اذ إن السياسيين هم من يعين مجالس الادارات في المستشفيات الحكومية. فيما الاعتمادات تصرف الى بعض المستشفيات الخاصة بحسب ولائها السياسي». وهذا ما يؤكده هارون «السقوف المالية لا توزع بشكل علمي بحسب احتياجات كل مستشفى، اذ تدخل فيها الحسابات السياسية والمناطقية».




علاج أولي


يشير البرنامج التنموي 2006 ـ 2009، الى أنّ عدد حالات العلاج الطبي داخل المستشفى يميل في إطراد الى الارتفاع، قياساً إلى العدد الإجمالي لحالات الاستشفاء . وقد راوحت هذه الحالات سنة2000، ما بين 61 في المئة و63 في المئة من العدد الاجمالي للحالات داخل المستشفى. وشهدت مستشفيات الجنوب والبقاع أعلى حالات العلاج الطبي (من دون عمليات جراحية) سنة 2004. فبلغت نحو 69 في المئة و73 في المئة على التوالي من العدد الإجمالي من حالات الدخول الى المستشفى، وهو ما يعتبر شديد الارتفاع بالمقارنات الدولية. ولا تتجاوز هذه النسب 45 في المئة في البلدان الاوروبية.