إبراهيم الأمين
لم يكن كثيرون يتوقعون نجاحاً باهراً لحوار الرئيس نبيه بري والنائب سعد الحريري. ليس مرد الفشل إلى تقاعس الرجلين عن القيام بما يلزم، وبالطبع ليس سبب الفشل انزعاج وليد جنبلاط أو سمير جعجع، لكن عقدة الاتفاق السريع بين بري والحريري تستلزم تفويضاً من نوع مختلف لرئيس كتلة “المستقبل”، بينما يمثل اعتراض جنبلاط وجعجع عنوان التقاطع الإقليمي ـــــ الدولي الرافض لتسوية لبنانية خارج السياق الجاري العمل عليه الآن من جانب الولايات المتحدة ودول غربية وحتى عربية أخرى، وبالتالي ليس في لبنان ولا في المنطقة من عاقل يفترض أن هناك إمكاناً لحل حقيقي في لبنان، بمعزل عما يجري في المنطقة، وتحديداً بمعزل عما تخطط له الولايات المتحدة رغم أن حظها العاثر سيرافقها أينما حلت.
وإذا كان هناك إمكان لاختصار جولة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس أو ما هو مطلوب من القمة العربية، فهو أن واشنطن مصممة، على ما يبدو، على شن حرب على إيران وتوجيه ضربات الى سوريا وفتح الباب أمام جولة عنف جديدة من جانب إسرائيل ضد المقاومة في لبنان. وليس بمقدور أحد الآن ادّعاء امتلاك عناصر الصورة كاملة، لكن ما تسرّبه أوساط أمنية وعسكرية أميركية الى صحافيين وسياسيين ودبلوماسيين يعارضون إدارة جورج بوش داخل أميركا وخارجها، يركز على أن الخطط الفعلية التي يشرف عليها نائب الرئيس ديك تشيني تقود الى حرب والى مواجهة لن تترك الولايات المتحدة لأحد مشاركتها في إدارتها. وهو ما يتطلب تهيئة من النوع الذي يأخذ في الاعتبار الفشل السياسي والعسكري في العراق. وليس في يد هذا الفريق من حيلة سوى ملف فلسطين، وليس بيدهم من فريق سوى ما يسمى الآن بالرباعية العربية.
يفترض المنطق الأميركي أن مصلحة استراتيجية توجب تحقيق اختراق في جدار الأزمة العربية ــــــ الإسرائيلية، وأن الأمر يجب أن يراعي بالشكل وضع القيادة العربية الموالية للأميركيين، وأن الأمر قابل للتحقيق من خلال اعتبار المبادرة العربية للسلام أساساً يُعمل على تعديله أو توليفه بما يناسب المصالح المنظورة لأطراف النزاع. وقاعدة العمل تقول إنه كما يصعب على الغرب الضغط على إسرائيل وإجبارها على تقديم تنازلات تعتبرها جوهرية، فإنه يصعب جر العرب الى تنازل، ولو شكلياً، في ملف المبادرة، ما يعني أنه يترك للعرب أمر التجديد للمبادرة مع تغيير ينقل إدارتها من الجامعة العربية الى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ما يتيح للمنظمة الدولية ومن يشرف عليها إدخال التعديلات التي تراها مناسبة لتسهيل أمر التسوية، وهو التعديل الذي يخص ملف الحل النهائي، سواء لجهة حق العودة وإزالة مطلب عودة اللاجئين والعمل على نقل قسم منهم الى الأراضي الفلسطينية، أو في ما يتعلق بملف الحدود النهائية للدولة الفلسطينية، وأن تنازلاً وحيداً يمكن إجبار إسرائيل عليه، هو المتعلق بإزالة بعض المستوطنات في الأراضي المحتلة والتقدم خطوة، ولو نظرية، في اتجاه ملف مزارع شبعا اللبنانية.
لكن هذه المبادرة تحتاج الى قوة دفع تتجاوز الرغبة عند البعض في لبنان أو المنطقة، وتتطلب تعديلاً جوهرياً في موازين القوى، وهي تستهدف توسيع دائرة الحياد السلبي العربي في الصراع مع إسرائيل، وتوسيع دائرة الحياد الإيجابي العربي في المواجهة الأميركية مع إيران، والحلف الذي تقف على رأسه، وهذا يتطلب خطوة متزامنة إزاء العلاقات مع سوريا وإزاء الوضع في لبنان. وبناءً عليه، فإن عنوان العمل الأميركي في المرحلة الحالية يقوم على فكرة شراء الوقت في لبنان بغية تحسين وضع الجماعات الموالية لواشنطن في لبنان وسوريا. وما يجعل الوضع اللبناني جاهزاً لمواجهة مفتوحة وبأشكال مختلفة، والخطير في الأمر هو أن الحاجات المباشرة لهذه الخطة تتطلب تقطيع الوقت سياسياً، دون الوصول الى حل من شأنه إفقاد قوى السلطة أوراقاً منها ما يتعلق بالجهازين الأمني والقضائي، والعمل سريعاً لتحسين قدرات فريق السلطة ضمن برنامج يهدف الى جعل سلاح المقاومة جزءاً من ملف الحرب الأهلية الباردة أو التي تعمل الولايات المتحدة وبعض الدول العربية على تسخينها.
وبناءً عليه، فإن الجهود الفعلية القائمة الآن من جانب قوى الأكثرية تتعلق بإعادة تنظيم الصفوف والسير قدماً في برامج التسلح والتدريب، وخلق أمر واقع كما هي الحال مع جماعة جنبلاط في الشوف وبعض مناطق الجبل حيث تنتشر الدوريات من جانب عناصره بلباس مدني لكن مع أسلحة وبطاقات عسكرية، وكل ذلك يجري تحت حجة إما الحفاظ على أمن جنبلاط وقيادييه من جهة، أو منع تسلل الغرباء الى المنطقة. وهو الأمر الذي لا يزال متعذراً على مجموعات “القوات اللبنانية” وبعض الجماعات المتصلة بحزب الكتائب. وثمة الكثير من المعلومات عن عمليات التحريض القائمة نحو “الأمن الذاتي” ربطاً بأن تفجيرات كثيرة تحصل في المناطق المسيحية، الذي يترافق للمرة الأولى بكلام لقوى نافذة في 14 آذار عن تسرب عمليات التسليح الى قوى مسيحية في صفوف المعارضة، ما يخفي عادة، وبالتجربة، رغبة مطلقي هذه الشائعات في القيام بعمل مشابه، لكن بعد وضعه في إطار الرد، ومن دون أن تتوقف قوى 14 آذار عن الطبل والزمر ليلاً ونهاراً عن أسلحة تهرب الى المقاومة والى قوى في المعارضة عبر سوريا.
وكان أحد المسؤولين الدوليين قد زار قبل أيام مرجعاً نيابياً وأثار معه ملف تهريب السلاح فأجابه الأخير: “ألا تعرف ويعرف العالم كله أن عمليات التسلح التي تقوم بها قوى 14 آذار لا تتوقف ساعة عن العمل، وأن مئات الشبان يُنقلون كل بضعة أسابيع الى الأردن لتدريبهم وتجهيزهم ومن ثم “يوضبون” في المدن والمحافظات تحت عناوين شركات أمنية خاصة ومتطوعين في الدفاع المدني وشركات أخرى؟”.
أما في الشق السياسي، فإن تعطيل الحل يفترض العودة الى الإطار العام الذي لا يحقق شيئاً عملياً في ظل الانقسام السياسي العربي. وليس في اليد حيلة سوى مبادرة الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، علماً بأن الأخير والفريق العامل معه على معرفة تامة بحقيقة الوضع وبمواقع الخلل وبمنابع الحلول. وبالتالي فإن العودة الى النقطة التي انتهى إليها موسى قبل مغادرته بيروت تعني نسف كل ما تلاها من نقاش وتوافق، سواء بين بري والحريري، أو بين إيران والسعودية. وهذا يفترض أن يطيح ليس فقط تعهد السنيورة حيال مشروع المحكمة كما يعتقد كثيرون، بل أيضاً كثيراً من التنازلات والتعهدات التي أطلقها الرئيس بري في أوراقه المكتوبة أو في حواراته المفتوحة.