جان عزيز
تبالغ المعارضة اللبنانية بعض الشيء حين تتهم قوى الموالاة باستدراج التدخلات الغربية وخصوصاً الأميركية منها، الى الصراع اللبناني الدائر اليوم. والمبالغة نفسها يقع فيها من يصور الأمر، أو يتصوره، مجرد نتيجة دعائية لعمل اللوبي الحريري في واشنطن. من دون أن يعني ذلك تجاهلاً لأهمية هذا العمل وتأثيره في المحصلة العامة، بدافع الإمكانات المالية والمادية والسياسية الضخمة المجندة لتحقيق أغراضه.
لكن بمعزل عن العامل اللبناني، يبقى الاهتمام الأميركي المباشر بلبنان، و«بتورط» واشنطن في مستنقعه منذ نحو عامين ونيف، عاملاً مستقلاً في ذاته، ومؤثراً في صناعة القرار الأميركي.
ويعتقد المطلعون على حيثيات هذا العامل أن لخلفياته وجهين مختلفين، واحداً مرتبطاً بالماضي القريب، وبالتالي بنزعة ثأر ما أو تصحيح صورة تاريخية سابقة، وآخر مرتبط بحاضر لبنان ومحيطه، والتفاعلات الممكنة أو المرجوة بينهما.
ويؤكد المطلعون أنفسهم أن لكل من هذين الوجهين أدبياته وخطابه ولغته.
فالوجه «المستقبلي» للاهتمام الأميركي بلبنان، ظل طيلة فترة طويلة مادة غنية حاضرة لدى أقلام النافذين والمؤثرين. وخلاصة كتاباتهم باتت معروفة من الجميع: في لحظة بدا فيها أن مشروع نقل الديموقراطية الغربية الى المنطقة متعثر الإشعاع عبر أزقة بغداد، نتيجة تفوق أعداد الرؤوس المقطوعة على أعداد الأصوات المقترعة في الصناديق غير المسبوقة، التقى «رجلا» الرئيسين الأميركي والفرنسي، كوندوليزا رايس وفرانسوا غوردو مونتانيو وبدأ الحديث. بعد جولات عدة باتت مكشوفة التفاصيل من إيفيان الى النورماندي، اقتنع البيت الأبيض بتسويقة الإليزيه: لبنان هو المدخل الأكثر سهولة لبدء المشروع. يطرد بشار الأسد من بيروت. تولد سلطة لبنانية لا تكون صنيعة سواها. ثم تنزع أسلحة جميع «المنظمات الإرهابية» الموجودة على الأرض اللبنانية. هكذا يمكن أن ينجح الثنائي بوش ــ شيراك في تحقيق ثلاثة إنجازات متزامنة: الأول تحريري بإخراج الجيش السوري، الثاني ديموقراطي بإعادة تكوين السلطة اللبنانية، والثالث «مكافح للإرهاب، بنزع أسلحة الميليشيات.
وفي الواقع تمثّل هذه الإنجازات واجهة لأخرى أكثر عمقاً وأشد فاعلية، عبر الضغط من البوابة اللبنانية على كل من دمشق وطهران، بما يساعد على معالجة الوضع العراقي، ويعيد الأمل الى بدر البلدان الـ27 التي تكوّن الشرق الأوسط الكبير المهجوس أميركياً.
تعثّر المشروع مرة أخرى. والأسباب بعضها ذاتي، معزوّ الى إخفاقات الوكلاء الأميركيين، وبعضها الآخر موضوعي، ناجم عن صمود الأخصام، وأخطاء تقدير المواقع والمواقف. غير أنه بعد أكثر من عام على هذا التعثر، لا يزال هذا الوجه «التطلعي» للاهتمام الأميركي بلبنان، حاضراً في واشنطن. ليس أدلّ عليه من روزنامة الضيوف اللبنانيين في «المثلث الفدرالي».
لكن الوجه الآخر من هذا الاهتمام، وهو الوجه «الاسترجاعي»، بات بارزاً أيضاً.
ويرى المطلعون أنفسهم أنه كلما تدنى مستوى المدعوين في بيروت الى اللقاءات الواشنطنية الرفيعة المستوى، شكل ذلك دليلاً على رجحان الاهتمام «الثأري» على حساب الاهتمام «التطلعي». حتى أن أدبيات هذا الوجه قد بدأت تظهر فعلاً الى العلن. يوم الخميس الفائت، على سبيل المثال، كان مجلس النواب الأميركي منعقداً لمناقشة مشروع القانون الديموقراطي، القاضي بوضع قيود على تمويل الحرب في العراق، بغية دفع الإدارة الى تحديد جدول زمني لانسحاب قواتها من بغداد. أثناء المناقشات، فاجأ زعيم الأقلية الجمهورية، جون بوهز زملاءه بتحذيرهم من أن مثل هذا القانون قد يكرر مأساة فيتنام في الستينات، والصومال عام 1993، ولبنان عام 1983. حتى إن بوهز لم يتردد في توجيه الانتقاد الى رئيسه الراحل رونالد ريغان بسبب «فشله في لبنان». قال ممثل أوهايو الجمهوري «أعداؤنا يعلمون ماذا حصل عام 1983 بعد تفجير مقر المارينز في لبنان، وبعد انسحابنا. ماذا رأينا؟ الفوضى والإبادة الجماعية في مختلف أنحاء لبنان، وهما مستمران حتى يومنا هذا».
مثل آخر من أدبيات هذا الوجه، قدمه أحد أبرز أقلام المحافظين الجدد بعد أيام، مايكل ليدين. ففي مقال له يتناول ما رأى أنه تقليد ايراني في احتجاز الرهائن، في سياق حادثة البحارة البريطانيين، لم يجد الكاتب الأميركي غير أرشيف صحيفة «العمل» اللبنانية، ومقتطفات من عدد لها في كانون الثاني 1989، ليستدل على وجود نحو 75 حادثة احتجاز رهائن في المنطقة آنذاك. مع ما لهذه الإشارة من دلالة خفية على زمن الرهائن الغربيين في بيروت، ومن تعبير مكتوم عن الوجه الاسترجاعي نفسه من الاهتمام.
ويعتقد المطلعون بأن الأصوات الأميركية التي تحاول تفنيد هذا الخطاب، تساهم ربما في تزكيته. فصاحب مرصد «كونسورتيوم»، روبرت باري، مثلاً، ردّ في سياق آخر مذكراً بتورط إدارته المخابراتي في بيروت، من قصف مدمرة نيوجرسي، حتى اختطاف مسؤول السي.آي. أي، وليام باكلي في بيروت. مذكراً بقول كولن باول في مذكراته، «رحلتي الأميركية». بأنه «حين بدأ القصف يتساقط على الشيعة، رأوا أن «الحَكَم» الأميركي صار طرفاً».
ربع قرن مرّ. والسيناريوهات تتكرر متشابهة. في المرة الأولى مأساة، في الثانية ملهاة، كما قال ماركس. لكن الملهاة اليوم يزيدها مأساوية أن سياساتها يتحكم بها الموتى أكثر من الأحياء، والماضي أكثر من المستقبل ومن أي حاضر.