صيدا ــ خالد الغربي
اختصرت أمس تلك الردهة الواسعة في أحد الزواريب الضيقة داخل مخيم عين الحلوة، الألم الفلسطيني بكل صوره، وحضرت فلسطين بكل تفصيلاتها وجراحها النازفة، عاداتها وتقاليدها، في النشاط المغاير الذي أقامته جمعية النجدة الاجتماعية في يوم الأرض تحت عنوان «من جيل إلى جيل أمانة الأرض في أعناقنا»، فحضر رجال ونساء، عجزة ومسنّون، تحكي وجوههم الموغلة في المأساة، نكبة بلادهم: دموع ذرفت مواويل فلسطينية وتراثاً، ذكّرت من بقي على قيد الحياة بطعم فلسطين وخبزها الذي راحت النسوة يصنعنه مع الحلويات الفلسطينية «اللزقيات»، فيما بقيت المفاتيح الصدئة لبعض بيوت فلسطين وأوراق «الطابو» الصادرة عن حكومة فلسطين التي حملها «النازحون» يومها على اعتبار «سنرجع يوماً..»، تُذكّر بحلم العودة.
فقد اختلف المشهد المعتاد، لم يحرق اللاجئون الإطارات، وغاب السلاح وضجيج الفصائل والخطابات الرنّانة. الأمر كان مغايراً إذ عاش الحاضرون ساعات مع «فلسطين مصغرة» وكأنك أمام قرية أو ريف فلسطيني: صور المدن الفلسطينية والقرى وُزّعت على الجدران، وصور أخرى عن المجازر حُشرت في الزوايا، الأكل الفلسطيني، العتابا والعرس الفلسطيني والعروس بزيّها التقليدي. لكن المشهد الدامع الأكثر إيلاماً يتمثل في قصص أولئك الطاعنين في السن، ممن أضحوا في شتاء عمرهم يعودون بالذاكرة الى ربيع عمرهم، يقصّون على «الجيل الرابع» للنكبة قصصاً عن فلسطين وغدر الزمان والعرب. «قاتلنا قتالاً مشرّفاً وكدنا ننتصر، ولكن العرب والزعماء طعنونا في الظهر»، يقول صالح إبراهيم العوض (88 سنة) من رأس الأحمر في صفد، في معرض ذكرياته، مردفاً: «وما زالت المؤامرة، فستّون سنة مرّت ونحن تحت زينكو القهر والذل». ونايف الخطيب (87 سنة) من الجليل يوصي أمام الحضور بنقل رفاته بعد مماته الى تراب بلاده ولو بعد حين.
الحاجة فتحية المنشغلة بصناعة «لزقيات» فلسطينية (عجين يُخبز ويُضاف إليه السكر) لتوزيعها، تتذكّر أنها تعلّمت صناعتها «يوم احتفلنا، ولمّا أبلغ العاشرة من عمري، في فلسطين بحفل زفاف قريبة لي». يغري مشهد تسلّم الطفل محمود عبد الهادي من جدّه أبو أحمد أوراق أرضه ومنزله في فلسطين، عدسات الإعلام وفضولية الحضور، إذ يوصي الجد حفيده قائلاً لا تنسَ يا محمود أن لنا أرضاً سليباً.
ميسر طه مسؤولة النجدة في المخيم أشارت الى الرغبة في تقديم هذا النشاط المميز بعيداً من الروتين، فاللقاء مع المسنّين يحمي الذاكرة من الضياع والتشتّت لكي تبقى القضية متوارثة جيلاً بعد جيل ولنحفظ الأماني حتى تحقيق الحلم، لافتةً الى أن الفكرة هي لحماية التراث والتقليد الفلسطيني والتعرّف به لكي لا يندثر ويضمحل ولأن ببقائه حيّاً تبقى القضية حية.