جان عزيز
وماذا بعد القمة العربية لبنانياً؟ السؤال ببساطة يمثّل المادة الحصرية للاتصالات السياسية المنطلقة من يومين، ولعمليات الاستشراف وجس النبض. ويُتوقع أن تكون قد بدأت اتصالات «فريقية» بين كل من طرفي الصراع اللبناني والعواصم العربية المعنية. وقد يترافق ذلك مع زيارات، بعضها معلن وأكثرها مكتوم، للاطلاع على النتائج وتنسيق الما بعد وتحديد التوجّه.
لكن في شكل عام تتركز هذه الحركة على سبر أي من احتمالات ثلاثة قد انتهى اليها المأزق اللبناني بعد قمة الرياض: إما استمرار الجمود حتى بروز معطيات جديدة أو تبلور تلك، الحالية، أو الاقتراب من استحقاقات أخرى تفرض أو تنضج كسر المراوحة، وإما التسوية المحكي عنها منذ أشهر على قاعدة الممكن. وإما الاحتمال الثالث الذي بات متداولاً همساً وتوجساً، أي الذهاب الى التصعيد على أكثر من جبهة، بدءاً بالمواجهة الأميركية ــ الإيرانية، وصولاً الى إسرائيل، ومروراً باستقرار النظام في دمشق وعدم استقراره في بيروت.
هذا الاحتمال النظري الأخطر، الذي بات أكثر من طرف معارض يحذر منه، ينظر الى القمة وما سبقها من «حوارات»، على أنها التمهيد التخديري لضمان عامل المباغتة العسكرية.
حتى أن بعض المعارضين يتحدث عن «خداع» سياسي مارسه أطراف كثيرون، لبنانياً وعربياً، لإنجاح هذه المباغتة. وهم يعددون أوجه هذا الخداع في بعض الشكليات البروتوكولية التي رافقت القمة، وفي اكثر من «لقاء ــ حدث» شهدته، وحتى في بعض مضامين الكلمات والبيان الختامي، التي حملت نوعاً من التطمين هنا أو الانتقاد هناك، على طريقة التمويه العسكري البحت.
من جهة أخرى، ينظر البعض الى هذا الاحتمال وكأنه تتويج حتمي لما يرى أنه «حملة التغريب الثالثة على لبنان». مسترجعاً في هذا السياق وضعيات الحملتين السابقتين عامي 58 و 82. في الأولى بدأت العملية المتكاملة بمشروع أيزنهاور للمنطقة، أي إنها بدأت في الحيز السياسي الإقليمي. غير أنها لم تلبث أن انتقلت الى المجال السياسي اللبناني الداخلي، عبر صراع الرئيس كميل شمعون ومعارضيه آنذاك، في لحظة استحقاقية لبنانية تمثّل دوماً «وقتاً ساخناً» في بيروت، هي نهاية الولاية الرئاسية. وبعد مرحلة السياسة لبنانياً، انتقلت العملية الى مرحلة العنف اللبناني، لتتوج بمرحلة أخيرة هي العنف الإقليمي والدولي، مع التدخل الأميركي وإنزال المارينز في 15 تموز 1958.
أما «حملة التغريب الثانية» سنة 1982، فبدأت هي أيضاً في حلقة السياسة الإقليمية مع مشروع ريغان للسلام في الشرق الأوسط، لتنتقل الى السياسة اللبنانية عشية نهاية ولاية الرئيس الياس سركيس، ولتختلط يومئذ مع «استدامة» حلقة العنف اللبناني، قبل أن تجد تتويجها بالاجتياح الإسرائيلي في 5 حزيران وبعده تدخل المتعددة الجنسيات، وعمادها مرة أخرى المارينز الأميركيون.
ويلاحظ أصحاب هذا الرأي خطاًَ نمطياً في هذه الحملات، يبدأ بحلقاتها الأربع المذكورة وينتهي في اعتقادهم بفشل محاولات «تغريب» لبنان ويستدلون على ذلك «بالتدهور» أكثر نحو «الشرق»، عقب كل محاولة. فلبنان الوجه العربي في الأربعينات، انزلق الى نوع من «السيادة النسبية» بعد أحداث 1958، ليصل الى «السورنة» شبه الكاملة بعد انهيار «حملة» 1982. والخط النمطي نفسه يتوقعه أصحاب هذا الرأي للحملة الثالثة الراهنة، إن لجهة مراحله المتتالية، او لجهة نتيجته الحتمية في اعتقادهم. فمرحلة السياسة الإقليمية انطلقت مع مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، ومرحلة السياسية اللبنانية اندلعت منذ صراع السلطة والمعارضة في بيروت. حتى إن مرحلة العنف اللبناني باتت تمثّل خلفية هولوغرامية للأحداث: ولم يبق غير «الحرب الإقليمية»... بعدها الفشل.
لماذا الفشل؟ يكاد جواب أصحاب هذا الرأي يكون محصوراً في حتمية الجيوبوليتيك اللبنانية ومقتضياتها الواقعية في شتى المجالات على طريقة استحالة «سلخ» لبنان عن محيطه. غير أن الدقة العلمية تفرض تسجيل فروق منهجية أساسية بين ما يحصل اليوم ومحطتي 58 و82
1 ــ في الداخل اللبناني ثمة أكثريتان في جماعتين أساسيتين مكونتين للكيان، تبدوان مؤيدتين لـ«الحملة الثالثة» على عكس سابقتيها. والمقصود طبعاً التياران السني والدرزي السياسيان. علماً أن هذا التأييد مندرج شكلاً تحت عناوين سيادية واضحة، لا يستطيع الآخرون مناهضتها.
2 ــ في الخارج الإقليمي، ثمة تناغم وانسجام بين العواصم التي مثّلت تاريخياً العمق الاستراتيجي الأول للتيارات العروبية اللبنانية، وبين «الغرب الهاجم» نظرياً على لبنان لسلخه عن محيطه، وفق الرأي السابق. فقاهرة عبد الناصر مثال «التهافت نحو الغرب» كما سمي قبل أعوام، فضلاً عن توصيف كل الأوضاع العربية الأخرى. فيما محور «الصمود» الوحيد يبدو في نزاع مذهبي وإتني مع «محور الشرعية العربية».
3 ــ في الحيز الدولي، ثمة عالم كامل قد خرج من مبادئ الجيوبوليتيك والتزامات الجغرافيا، ليدخل زمن «إيكوبوليتيك» كما سماه مرة فؤاد بطرس، في تدليل على عصر الاقتصاد واستراتيجياته ومترتباته على السياسة والمكان والإنسان. مع ما لهذا التغيير من نتائج على نظريات «المحيط»، فضلاً عن «الهوية» والانتماء، وخصوصاً في الشرق الأوسط.
هل تنجح هذه المرة؟ هل هي فعلاً «عملية ثالثة» في الأصل؟ أم أن في كل ما سبق مبالغة في تقدير دوافع السياسيين اللبنانيين ومفاهيمهم المقتصرة فعلاً وأساساً على ثلاثية ورقية، بين اللقب والتصريح ودفتر الشيكات؟