إبراهيم الأمين
أنهك الرئيس نبيه بري بابا نويل هذا الموسم. فرض عليه الانتظار مرات ومرات. وفي كل مرة يعد الناس بعيدية سرعان ما يتضح أنها مثل علب الكرتون التي تفتح على علب وعلب حتى ينتهي الأمر على “محشي الخشب” الذي تحدث عنه الجاحظ: حبة زيتون لا أكثر ولا أقل. لكن الأمر لا يتصل بموقف بري الشخصي. حتى إذا احتدم السجال في حقيقة ما يقوم به، ولا سيما أن بين أركان السلطة من يصر على القول إن بري “معنا وليس معهم وإنه محكوم بأمور عدة بينها الاستنفار الشيعي الذي يجعل جمهوره الآن تحت ظل السيد حسن نصر الله. وإن ترتيبه للعلاقات مع سوريا يفرض عليه برنامج عمل مختلفاً عن السابق. ولكنه لا يوفر الفرصة لإعطاء الإشارة إلى تمايزه، فيرفض تحرك المعارضة متى يقدر، ويخفف منه متى يستطيع. ثم إذا حالفه الحظ فتح الباب أمام حوارات ولو من دون طائل. لكن أليس مستغرباً أن بري لا يجتمع إلا قليلاً بحليفه نصر الله؟ وأنه لم يلتق منذ زمن بعيد بالعماد ميشال عون؟ وأنه لا يوافق سليمان فرنجية على كل ما يقوله؟ وأنه أقرب إلى المحكمة الدولية من أي طرف آخر في المعارضة حتى لو سبّب ذلك إزعاج دمشق؟”.
إلا أن حال بري والمبادرات مثل حال الحوار الداخلي، باعتبار أن رئيس المجلس قرر أمرين: ممنوع الاقتراب من المجلس النيابي قبل التوصل إلى حل سياسي للأزمة الحكومية. وممنوع القفز فوق الاعتبارات الخارجية في أي حل يراد له أن يعيش ويعمّر. وهو في الشق الأول واجه مشكلة مع فريق السلطة عندما أبلغ أركانه المقربين والأبعدين أنه منح المجلس إجازة مفتوحة لا يمكن إقفالها، وأن أي محاولة لتجاوزه تعني خسارته بالكامل. أما في الشق الثاني فقد راهن على إقناع عمرو موسى بأن عليه إدخال تعديلات على آلية إعمار مبنى الحل اللبناني. قال بري إن الطابق اللبناني مهم وهو الأساس. لكن لا بأس بالاكتفاء بالأعمدة التي وجدت في إطار الحل الذي عرضه موسى قبل مغاردته، وأن ينتقل فوراً إلى الطابق الأعلى وأن يذهب ليركز على آلية تواصل وحوار وتسوية بين سوريا ومصر والسعودية وأن يعمل بعدها على حماية المشروع من خلال دعم إيران وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية.
لم يرفض موسى الاقتراح، وهو أصلاً ناقش الأمر في القاهرة وفي الرياض وفي واشنطن، واكتشف نتيجة معاكسة لمقاربة بري: أن خصوم سوريا يرون ما يحصل اليوم في بيروت تصعيداً منها بغية جرهم الى تسوية معها، وأن الأمر لن يتم على هذا النحو. وعلى سوريا المبادرة أولاً من خلال “ترييح” الملف اللبناني وبعدها يفتح باب التسوية مع مصر والسعودية، وخصوصاً أن هناك ملفات أخرى تنتظر البحث، بينها ما يجري في العراق وفلسطين وما يخص علاقة سوريا مع إيران.
لكن بري لم يقتنع بهذه المقاربة. وعندما فشل موسى في إقناع فريق السلطة باقتراحه لجدولة الديون السياسية المستحقة على الطرفين وفق أولويات معقولة، عاد رئيس المجلس إلى فكرته الأولى وأخرج ثعالبه من جديد، ولم يكن بيده من حيلة سوى مخرج حكومة الأقطاب المصغرة. وهو دخل في جدل حول فكرة أن الأربعة المكملة للستة الآتين من السلطة المعارضة، وقال: أنا لم أتحدث عن محايدين كما يقول فؤاد السينورة ووليد جنبلاط، بل تحدثت عن مستقلين. وأنا أعني ما أقول، وإن هناك الآن في الحكومة الحالية وفي البلاد من الشخصيات من هو خارج تجمعي السلطة والمعارضة. وإن لهذه الحكومة القدرة على فرض آلية علاج للمسائل المعقدة التي تخص المحكمة والملف الرئاسي والانتخابات نفسها. لكن بري أصر على القول إن مدخل الحل ليس من الداخل، ما دفعه إلى إثارة الأمر مع السفيرين الأميركي والفرنسي ثم مع السفير السعودي، إلا أن المفاجأة أتته هذه المرة من أحد هؤلاء الثلاثة، وهو لا يحمّل أبداً السفير السعودي المسؤولية، لكنه يسأل عن سبب وطريقة إطلاع وشرح السفير الفرنسي برنار إيمييه لما سمعه من بري للآخرين، وتحديداً لكل من سعد الحريري ووليد جنبلاط، وخصوصاً أن ردة فعل الأخير هي التي أثارت حفيظة رئيس المجلس، لأن زعيم الغالبية الدرزية وجد في الاقتراح بدعة لا تفيد في شيء، وإن كل ما يحصل هو محاولات للهروب من استحقاق المحكمة الدولية.
عند هذه اللحظة وجد جنبلاط نفسه كما الآخرون من فريق السلطة أن الجرعة الأولى من التعبئة باسم المحكمة لم تؤدّ غرضها، وأن كل التعئبة والحملات لم تدفع الفريق الآخر إلى تقديم تنازلات في الأمر. فما كان منه إلا أن ألقى بقنابله يميناً وشمالاً متحدثاً عن دور لحزب الله في الاغتيالات، وترافق ذلك مع توثيق هذا الاتهام من جانب مساعده لشؤون التوتر العصبي مروان حمادة الذي طلب التحقيق مع حزب الله في الأمر. وعندما حاول البعض التدقيق مع “الثنائي المتوتر” في الأمر، كانت الكلمة السحرية: نحن لا نقصد كل حزب الله ولا السيد نصر الله، بل عماد مغنية ومجموعة قال جنبلاط إنها تسيطر على حزب الله وتديره بعلم أو بغير علم نصر الله. ووجد الاثنان في الأمر ما يكفي لإعادة فتح دفاتر الماضي انطلاقاً من القول بأن ثمة جناحاً في الحزب يعمل على هواه وهو المسؤول عن الأمر.
عند هذا الحد كان بري ينتقل على حدود منتصف الملعب، لكنه بعد ذلك بات يشعر بأنه أمام استحقاق من نوع مختلف. ولم يعد الأمر متصلاً بتعديلات من هنا أو هناك على مشروع المحكمة الدولية كما يحلو للوزير شارل رزق أن يقول في محادثاته المعلنة وغير المعلنة مع الأطراف المعنية، وإن الأمر لا يتعلق بمواد من شأنها قطع الطريق على اتهام جماعات إن كان الاتهام يصيب أشخاصاً فيها. بل إن الموضوع كما قدمه وشرحه وليد جنبلاط، ولم يرفضه سعد الحريري ولا الآخرون من فريق السلطة، يجعل النقاش في مربع السؤال المركزي: ما هو المطلوب من هذه المحكمة؟ وهل الأمر يتعلق بحسابات سياسية أم بمسائل قضائية؟ وبعدما أظهر المعلن من التحقيقات أن هناك مشكلة جدية في إعداد لائحة اتهامية، فهل يمكن إطلاق محكمة بهذا الشكل، وإذا كان متعذراً اتهام الموقوفين حالياً بأشياء جدية؟ وإن تبرير توقيفها السياسي يعود إلى الرغبة في الذهاب إلى المحكمة بأشخاص إن لم يكن بأدلة، فهل يمكن التغاضي الآن عن شعار رفع سابقاً ويقول: هاتوا التحقيق وقدموا القرار الظني وبعدها نعرف إلى أي محكمة نسير؟