عرفات حجازي
مرة جديدة يطوي الرئيس نبيه بري مبادرته الجديدة ويضعها في الثلاجة في انتظار بروز معطيات ووقائع جديدة تسمح بإعادة اطلاقها في ظروف أفضل.
وليس سراً أن رئيس مجلس النواب الذي احاط مبادرته بسرية تامة، كان ينوي اعلانها غداً في مؤتمر صحافي، لكنه فوجئ بالرماية عليها من رئيس اللقاء الديموقراطي وليد جنبلاط واصفاً اياها بـ «البدعة»، فأدرك على الفور أن جنبلاط الذي يحرص الرئيس بري على ابقاء قنوات الاتصال معه مفتوحة، ذهب بعيداً وأحرق من خلفه كل المراكب، ونقل الاجواء الى مرحلة عدائية ودرجة عالية من التصعيد، بحيث بات من الصعب أن يستمر بري في مبادرته بعدما بلغت اتهامات جنبلاط لحزب الله ذروة غير مسبوقة دفعت بالأزمة الى ابعد ما في مقدور البلد أن يتحمّل، ففضّل عندها التريث بانتظار بوادر مشجعة من القيادات المعنية تحمل قدراً من الرغبة في كبح الاندفاع التصعيدي ولجم تفاقمه...
ولا يخفي الرئيس بري في مجالسه الخاصة أنه فكر بإطلاق مبادرته بعد وقائع الاجتماع الاخير الذي جمعه بالسيد عمرو موسى في 15 الشهر الماضي، عشية عودة الاخير الى القاهرة، عتدما اعترف امام رئيس المجلس بفشل مبادرته وصعوبة التوفيق بين الطروحات المتناقضة لأطراف الأزمة، معرباً عن قناعته بأن تعقيدات الأزمة واطالة امدها ستتحول الى مأزق وطني كبير بكل ما ينطوي عليه من احتمالات سلبية تطول البلد في وحدته وسلمه الاهلي. من هنا كانت مسارعة الرئيس بري إلى الحديث عن مبادرة جديدة لقطع الطريق على احتمالات التصعيد التي كان يلوّح بها فريقا الصراع، وهو ما يعني الوقوع في مزيد من الدوران في الحلقة المفرغة والاستمرار في اجواء الشحن والتوتير، الأمر الذي يضاعف من إنهاك لبنان ويفاقم من ازماته المعيشية والاقتصادية التي وصلت الى حالة الاختناق.
ويرى الرئيس بري أن الامعان في سياسات المكابرة ورفع السقوف والدفع بالتصعيد الى اعلى درجاته، لا ينفع في حل التناقضات بين مشروعين متصادمين، وأنه لا بد من تسوية تاريخية بينهما، ولا سبيل الى مثل هذه التسوية الا باعادة الاعتبار الى الحوار والتفاهم الذي ينطلق من ادراك خطر الصدام بين اصحاب المشروعين، لافتاً الى أن الخطاب السياسي المنفلت من كل الضوابط يشعل النار ويزيدها لهيباً.
ويستغرب بري امام زواره كيف أن نواب 14 آذار تقدموا بعريضة الى الامين العام لمجلس النواب تطالب بتعيين جلسة لإقرار المحكمة الدولية من دون أن يصل مشروع المحكمة الى المجلس، ويلفت في هذا الاطار الى أن مرجعيات روحية وسياسية اسلامية فهمت أن الحكومة قررت ارسال المشروع الى المجلس لأن المشروع وصل الى المجلس، وهو الامر الذي لم يحصل، وكأن الهدف من ذلك اظهار ان الرئيس بري وما يمثل ومن يمثل، ضد المحكمة الدولية، وهو امر خطر جداً هدفه الفتنة بين المسلمين.
ويرفض بري أن يضع مبادرته كأنها مناقشة لمبادرة عمرو موسى او التفاف عليها، بل كانت محاولة جادة ومخلصة لاستيعاب اجواء التأزم والخوف من استمرار لعبة عض الاصابع التي ليس فيها رابح او خاسر، بل خسارة مؤكدة للجميع، لافتاً الى أنه قدم كل التسهيلات الممكنة لإنجاح مبادرة موسى بدءاً من طريقة الاختيار للوزير الملك والتي تقضي باختيار واحد من ثلاثة بالتدرج، لكنهم رفضوا ذلك فعاد متمنياً ان تتوسع مروحة الخيارات الى خمسة «فوافقنا» كذلك، لكنهم عادوا فرفضوا وأعطوا انطباعاً بأنهم غير جاهزين للحل، ليتبين بعد ذلك أن اموراً اخرى ارادوا تمريرها واعتبرناها مخالفة للدستور والقواعد المعمول بها، وأن القبول بها سيكرس أعرافاً تسيء الى عمل المؤسسات، مثل إصدار مرسوم احالة المحكمة الى مجلس النواب ونشره في الجريدة الرسمية من دون المرور برئاسة الجمهورية وفق الاصول ومن دون مراعاة المهل الدستورية...
ويقول مقربون من الرئيس بري إنه لم يطرح مبادرة متكاملة بقدر ما اراد أن يعطي اشارات إلى أن الابواب السياسية لم تقفل امام الحلول والتسويات، وأنه بعد مبادرة عمرو موسى لن يكون تصعيد وفوضى وتصادم بل مبادرة جديدة وتحرك جديد وأفكار جديدة حتى يصبح بالامكان تحقيق اختراق في جدار التصلب السياسي. ومن جملة الافكار التي كان ينوي طرحها اقتراح تأليف حكومة عشرية شبيهة بحكومة الرئيس رشيد كرامي في عهد الرئيس امين الجميل تتمثل فيها الموالاة والمعارضة بثلاثة وزراء اقطاب لكل منهما مع اربعة وزراء مستقلين، بحيث لا تكون هناك اكثرية الثلثين او الثلث الضامن، بل حكومة اقطاب او من يمثلهم قادرة على اتخاذ القرارات الايجابية في المواضيع الخلافية ولا سيما موضوع المحكمة ذات الطابع الدولي وباريس 3 والانتخابات الرئاسية المبكرة بعد الاتفاق مسبقاً على الرئيس المقبل.
ويؤكد هؤلاء أن الهجوم السياسي لوليد جنبلاط على حزب الله واتهامه بالتورط في بعض الاغتيالات، ان لم يكن كلها، عزّز المخاوف لدى الحزب من أن بعض نصوص المحكمة يهدف الى تلبيسه تهماً اجرامية، خصوصاً ان الوزير مروان حمادة بدأ الزج عملياً بالحزب عن طريق المحكمة من خلال الدعوى التي اقامها وأرسلها الى لجنة التحقيق، وهذا ما يدل صراحة على أن المعارضة لم تكن مغالية عندما ابدت خشيتها من تسييس المحكمة.
إزاء كل هذه التطورات فإن اجواء الرئيس بري وإن بدت مستاءة وخائبة من تصرفات البعض، الا انها توحي بالرغبة في الاستمرار في البحث السياسي، ولا تحبذ اللجوء الى التصعيد الا اذا كان ضمن الاطار السلمي والديموقراطي وتحت سقف القانون.