طارق ترشيشي
استوقفت الأوساط السياسية على اختلافها التصريح الذي أدلى به الناطق المساعد باسم الخارجية الفرنسية دوني سيمونو الأسبوع الماضي، وشدد فيه على أن فرنسا تريد إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري «بتوافق لبناني لأن هدف القرار الدولي 1701 والمساعي التي تبذلها الأسرة الدولية هي تثبيت السيادة وسلامة الأراضي واستقلال لبنان»، مضيفاً أن بلاده «تأمل في حصول اتفاق بين جميع الأطراف اللبنانيين للتوصل إلى إنشاء هذه المحكمة».
هذا الموقف الفرنسي الذي جاء رداً على ما أعلنه الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان قبل أيام من نهاية ولايته من أن مجلس الأمن سيتدخل في شأن المحكمة الدولية إذا فشل الأطراف اللبنانيون في إقرارها، تزامن أيضاً مع «زعل» فريق السلطة من وزير العدل شارل رزق لإعلانه أخيراً مواقف جاء فيها أن لديه حلولاً للبنود المختلف عليها بين الأكثرية والمعارضة، وخصوصاً موضوع مسؤولية الرئيس والمرؤوس وشمول المحكمة في صلاحياتها كل جرائم الاغتيال ومحاولات الاغتيال، من محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة إلى جريمة اغتيال النائب جبران تويني.
وقيل في هذا المجال إن «جدلاً حاداً» حصل بين رئيس الحكومة فؤاد السنيورة ورزق على خلفية مبادرته لحل الإشكال حول المحكمة الدولية، فقال له السنيورة: «لا ينبغي عليك أن تضعنا أمام أمر واقع»، فكان أن انكفأ رزق على نفسه وما زال على انكفائه، علماً بأن فريق المعارضة وجد في ما اتخذه وزير العدل من مواقف «خرقاً» في الحكومة، وخصوصاً في ضوء قوله إنه ليس من فريق 14 آذار وإنما هو وزير في الحكومة، وهو قول أراد رزق من خلاله التأكيد أنه يريد أن يكون موضع توافق بين فريقي السلطة والمعارضة.
وإذ تتساءل الأوساط عما إذا كان لمواقف رزق علاقة بالموقف الفرنسي الأخير الداعي إلى إقرار المحكمة الدولية بتوافق لبناني لا تحت الفصل السابع، ترى أن موقف باريس أربك الكثير من الأفرقاء اللبنانيين والدوليين لأن له علاقة بالانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة، فحزب الرئيس جاك شيراك يتجه الى ترشيح وزير الداخلية نيكولا ساركوزي، لكنه في الوقت نفسه يخفي مفاجآت حتى اللحظة الأخيرة. فإذا أظهرت استطلاعات الرأي تقدم ساركوزي على المرشحة الاشتراكية سيغولين رويال، يعمل شيراك عندئذ على التفاهم معه ويدعمه. أما إذا أظهرت العكس فيمكنه في هذه الحال أن يرشح وزيرة الدفاع ميشال أليو ماري، أو يرشح نفسه خلال الأسابيع الأخيرة الفاصلة عن موعد الانتخابات.
على أن حظوظ رويال في الفوز تتقدم وباتت قريبة من حظوظ ساركوزي، علماً بأن تقدمها مرتبط بتفاقم الانقسام في صفوف اليمين. وفي المقابل فإن زعيم الجبهة الوطنية المتطرفة جان ماري لوبن قد غيّر منذ مدة في استراتيجيته، وبدأ يتحدث بإيجابية عن المسلمين والعرب للحصول على أصواتهم، عاملاً على استغلال مواقف الحزب الاشتراكي القريبة من إسرائيل في حملته الانتخابية، فضلاً عن استغلاله «الخطوات القمعية» التي اتخذها ساركوزي ضد المهاجرين العرب في الأحداث التي شهدتها ضواحي باريس العام الماضي.
على أن الأوساط نفسها تربط موقف رزق أيضاً بالموقف الروسي الداعي الى توافق لبناني ــ لبناني على المحكمة، والذي يقابله انقسام وتردد أميركيان حول قضايا الشرق الأوسط جعلا السفير جيفري فليتمان ذا الولاء الديموقراطي يعود من واشنطن أخيراً مرتبكاً ومشوشاً بسبب الضغوط التي يتعرض لها من الإدارة الأميركية، وهذا يفسر قوله في إحدى المناسبات إنه «لا يستطيع أن يكون لبنانياً أكثر من اللبنانيين الذين عليهم أن يعالجوا شؤونهم بأنفسهم». وهو قال ذلك بعدما اطّلع في واشنطن على الأجواء الصاخبة السائدة حالياً بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي نتيجة الفوز الكاسح للأخير في الانتخابات النصفية الأخيرة.
وترى هذه الأوساط أن لبنان والمنطقة يقفان حالياً أمام استراتيجيتين أميركيتين لكل منهما وثيقتها، استراتيجية الجمهوريين ولها وثيقة 1996 للمحافظين الجدد القائلة بـ«القرن الحادي والعشرين الأميركي» والقائمة على نظرية الحروب الاستباقية والوقائية والسيطرة على العالم، واستراتيجية الديموقراطيين القائمة على وثيقة بيكر ــ هاملتون التي يدعمها جزء من الجمهوريين والداعية الى احتواء التوتر في المنطقة والعالم والخروج من نظرية إسقاط الأنظمة الى التفاهم معها بما يحفظ المصالح الأميركية.
وتخلص هذه الأوساط الى القول إن الصراع العنيف بين الاستراتيجيتين ووثيقتيهما هو ما يفسر ارتباك فيلتمان في هذه الأيام، فهو ذهب الى واشنطن مشوشاً، وعاد منها أكثر تشوشاً. فيما لبنان يعيش صراعاً داخلياً بين جهتين، لكل منهما عريضتها: الأكثرية وعريضتها التي تتهم رئيس الجمهوررية العماد إميل لحود بـ«خرق الدستور» والمعارضة وعريضتها التي توجّه الاتهام نفسه الى رئيس الحكومة.