strong>نقولا طعمة
التحدّي بين عالم يريد الحياة الطبيعية وآخر يريد أن يمنعها

الحفلة في ساحة الشهداء قد بدأت، وجلّ من في ساحة رياض الصلح سبقك إلاّ القلّة من «الانضباط». أمواج من البشر تزحف إلى الساحة حيث عقد العزم كلّ من «التيار الوطني الحرّ» و«تيار المردة» على إحياء المناسبتين معاً في أجواء أراداها طبيعية، وهي لن تتكرّر إلاّ بعد سنين طوال، لأن المناسبتين قد تلتقيان بعد ثلاثة عقود ونصف، مع أجيال غير تلك المحيية للاعتصام الحالي.
عرّيف، ومغنون، وإيقاعات، والفنانة «صباح»، وتندلع الساحات بالموسيقى، وتبدأ الأجساد الآتية من كل الاتجاهات الجغرافية والسياسية والاجتماعية اللبنانية تتفاعل مع المناسبة، تريد أن تؤكد توحيد المناسبتين رمزاً لتوحيد أصحابهما. هنا ترفع الأعلام اللبنانية وأعلام المردة والتيار الوطني الحر وأمل وحزب الله والحزب الديموقراطي اللبناني، وبينها ترفع صور لأسامة سعد وعمر كرامي وعبد الرحيم مراد، وصورة كبيرة تطلّ من أعلى الساحة للسيد حسن، والجميع راض بإمامته.
ينتصف الليل، فتنطلق البرامج المعدّة لهذه اللحظّة. ألعاب ناريّة تملأ أنوارها ودويّ انفجاراتها الأجواء بمختلف الأشكال والأصوات التي أطلقها العونيون، وعروض بالليزر لشعارات القوى المشاركة أعدّها «المرديون» واتّخذوا من جدران قاعة السينما المطلّة على الساحة شاشة لعروضهم. كلّ العيون منبهرة وشاخصة إلى أعلى، تجول بين العروض المختلفة.
زخات من الرصاص الخطّاط القادم من بعيد تخترق الأنوار الاحتفالية. «إذا وقعت رصاصة على الرأس فستؤذي من تصيب»، يقول أحد المعتصمين. فيردّ آخر: «لن يصيبك إلاّ ما كتب الله لك. ما جئنا إلى هنا لنخاف، بينما الشهداء يلفّون الساحة بصورهم وأصواتهم».
نصف ساعة من العروض الصاخبة، ثم تتواصل الاحتفاليّة التي تتمدد حتّى الفجر. إنّه التحدي بعينه بين عالم يريد الحياة الطبيعية، وآخر يريد أن يمنعها عنهم. قبالة المنصّة آلاف يواكبون العزف الموسيقي في منظر قلّ نظيره بما يجمع من تنوّع، وقبول للآخر بما لم يسبق له مثيل. يسحب أحد المحتفلين قنينة نبيذ ويأخذ كرعة، يناديه «مرديّ»: «الرجاء التزام احترام إخواننا بعدم الظهور».
الانضباط باللباس الأسود والذقن المخططة، يديرون الظهر، ينهمك بعضهم بنارجيلته، وآخرون لا يتدخلون. وتدور السيّدة الزغرتاويّة «أم جمال» ملتفة بالأخضر، تؤدي رقصة خاصة من تصميمها، وتحمل «ألفيّة» من الشمبانيا على كتفها، تدور بها رقصاً بين الجموع، وتصب الكؤوس للمحتفلين. وتحت الجسر خيمة عونية خرج سكانها إلى ساحتها، حيث ثبّتوا برميلاً حوّلوه إلى موقدة تدفئة وتحلّقوا حوله دبكاً وغناء.
الساحة كلّها احتفال متواصل بسلسلة من الحلقات. النار في كلّ مكان على الأرض، والأنوار تملأ السماء، فتزيد المكان دفئاً، واللبنانيون من مختلف المشارب يحتفلون معاً، وأم جمال تظلّ تجول بألفيتها، والجميع يريد أن يذهب باللعبة حتى الثمالة. فاليوم خمر، وغداً بالنسبة لهم، يوم آخر.