نقولا ناصيف
أجرى عدد من أركان المعارضة غداة رأس السنة الجديدة، في اجتماع عقدوه بعيداً من الأضواء، تقويماً لنتائج الأيام الـ33 من الاعتصام المفتوح الذي نفذته قوى المعارضة في ساحتي رياض الصلح والشهداء، وخلصوا إلى بضعة استنتاجات:
أولها، أن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة والغالبية الحاكمة نجحتا في استيعاب صدمة الاعتصام وانتشاره الواسع والحشود التي تضامنت مع المعارضة التي كانت قد انتزعت من الغالبية الساحة التي رمزت إلى حركة 14 آذار. لكن اللافت في تقويم هؤلاء الأركان خشيتهم من أن تكون الغالبية التي صمدت قد بدأت تتطبّع بالواقع الجديد وتتعامل معه على أنه حال دائمة من غير أن تقدم هي ــــــ ولا رئيس الحكومة ـــــــ على تنازل جوهري في الصراع الدائر بين الطرفين.
ثانيها، أن الحكومة، مستفيدة من جرعات الدعم العربي والدولي شبه اليومي والمتواصل، انتقلت من موقع الدفاع عن النفس إلى موقع الهجوم عبر قلب أولويات المواجهة السياسية مجدّداً. وقبل أن يُطوى السجال المحيط بالمحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتأليف حكومة وحدة وطنية، فتحت باباً جديداً لاشتباك سياسي تريد الحكومة من خلاله التصرّف على أساس أنها تتطلع إلى الأمام، متجاهلة الاعتصام ومحاصرتها داخل السرايا. وهو مغزى إطلاقها مشروع الإصلاحات الاقتصادية المرفوع إلى مؤتمر باريس 3، وتأكيدها أنها ستقرّه بإجماع وزرائها في جلسة مجلس الوزراء اليوم، بالطريقة نفسها لإقرارها مرتين المحكمة الدولية، وهي تجاهلها غياب الوزراء الشيعة وتحميلهم من ثم الأمر الواقع الجديد، وأنها تجزم بذهابها إلى مؤتمر باريس 3 واثقة من الدعم العربي والدولي الذي ستُقابَل به في العاصمة الفرنسية وتترك وراءها المعارضة في الشارع تتخبّط في مأزق اعتصام مفتوح فقد أهدافه بالنسبة إلى الغالبية. تُقدم على ذلك كله وهي تعي أيضاً وزر أكثر من حصار خانق يطبق عليها: رئيس الجمهورية إميل لحود من خلال تجميد توقيعه الدستوري على القرارات التي يصدرها مجلس الوزراء وأكثرها وطأة تعليق إقرار مشروع المحكمة الدولية، ورئيس المجلس نبيه بري يوصد في وجهها أبواب البرلمان ويمنع وصول المشروع نفسه إليه لإخلاله بالأصول الدستورية للإحالة، والشارع الذي يمسك بقبضته حزب الله والتيار الوطني الحر وحركة أمل. في المقابل فإن الأطراف الثلاثة هذه تدرك بدورها أن الاعتصام المفتوح استنفد أهدافه، إلا أنه لم يكن منذ الأول من كانون الأول الفائت الخيار الوحيد لسعيها إلى إسقاط حكومة الغالبية.
ثالثها، أن على المعارضة مواجهة الجمود الذي أضحى عليه الاعتصام المفتوح بـ«دعسة كاملة» من خلال سلسلة إجراءات جديدة تعيده إلى واجهة الحدث، وتشدّد عبره الضغوط على حكومة السنيورة والمعارضة.
تبعاً لذلك درس الاجتماع الأخير لبعض أركان المعارضة خطوات وصفها مسؤول بارز فيها بأنها تدخل في سياق «احتجاجات عنفية» ليست إلا ما تحدّث عنه قبل أيام النائب والوزير السابق سليمان فرنجية وقوبل باستهجان الحكومة والغالبية، إذ لمح إلى قطع طرق وعصيان، الأمر الذي حمل السنيورة على القول إن تعليمات الحكومة اللبنانية للجيش والقوى والأجهزة الأمنية الأخرى منع قطع الطرق. والواضح، استناداً إلى مداولات اجتماع الأركان، أن ما كشفه فرنجية آنذاك كان جزءاً من جملة أفكار جدية تداولها زعماء المعارضة توطئة لوضع الخطة الجديدة التي تقضي بتجاوز قطع الطرق إلى ما قد يكون أدهى من ذلك كتعطيل كامل لعمل الوزارات والإدارات الرسمية والحؤول دون الوصول إلى المطار والمرفأ وتعطيل المفترقات الرئيسية التي من شأن تعطيلها إحداث شلل كامل في دورة الحياة الطبيعية للبنانيين، وإحراق دواليب، توصلاً إلى استعجال ما يسميه المسؤول نفسه «استسلام» حكومة السنيورة وإذعانها لمطالب المعارضة.
ويبدو أن جانباً من هذه الخطة يقضي بالعمل على الانتقال بجزء من الاعتصام من ساحتي رياض الصلح والشهداء إلى الطرق العامة والمفترقات الرئيسية أو التي تقود إلى المنشآت الحيوية الرئيسية لإقفالها.
رابعها، رغم أن هذا الاجتماع اكتفى بعرض سلسلة إجراءات من باب اقتراح الوسائل المتاحة لدى المعارضة بأفرقائها جميعاً، فإن اجتماعاً عاماً لأركانها يُرجّح انعقاده نهاية هذا الأسبوع أو مطلع الأسبوع المقبل بغية اتخاذ قرار نهائي بالضغوط هذه.
خامسها، أن أركان المعارضة باتوا متيقنين من عدم جدوى التحرّك العربي الذي لم يعد يعدو كونه، منذ عطلة الأعياد، نصائح بالتروي والتهدئة وترك الأبواب مفتوحة أمام حل سياسي في منأى عن التشنج المذهبي خصوصاً، أياً تكن وطأة السجال والشروط المتبادلة التي تُبرِز عدم رغبة كل من الطرفين في التوصل إلا إلى الحل الذي رسمه هو لندّه. إلا أن هؤلاء الأركان يطرحون في المقابل علامات استفهام حيال إمكان وجود خطة سياسية جديدة للسعودية بعدما كان سفيرها في بيروت عبد العزيز الخوجة قد نفى قبل أكثر من أسبوع وجود مبادرة. على أن استقبال العاهل السعودي الملك عبد الله وفداً رفيعاً من حزب الله قبل أيام حمل أكثر من دلالة:
منها رفع الحوار بين الطرفين إلى الذروة وانتقاله مباشرة وبصراحة إلى العرش السعودي، بعدما كان مقتصراً منذ أكثر من سنة على اجتماعات السفير في بيروت بالأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله.
ومنها أن الحزب يتجاوز بحواره مع العرش السعودي كل الانتقادات التي يُقابله بها خصومه في الشارع السني اللبناني، ولا سيما البيروتي، في إطار تبادل الحملات المذهبية التي يقود بعضها حلفاء للمملكة.
ومنها أن المملكة تعيد تقويم موقفها من حزب الله بعدما كانت وجهت إليه، في اليوم التالي لحرب 12 تموز انتقادات قاسية على استدراجه إسرائيل إلى حرب دمّرت لبنان، ووصفتها بالمغامرة، سرعان ما تبنت العبارة مصر والأردن قبل أن تنتقل بدورها إلى أفرقاء لبنانيين بارزين في الغالبية كالنائب سعد الحريري. إذ إن تقويماً جديداً كهذا يعيد التوازن إلى علاقة المملكة بفريقي الغالبية والمعارضة على قدم المساواة، ويجعلها أكثر تفهّماً لمطالب الطرفين في آن.
ومنها أيضاً ـــــ وقد يكون ذلك الأهم في الزيارة ـــــ أن المملكة استقبلت الحليف الأقوى لسوريا في لبنان والأكثر إمراراً لنفوذها وتأييداً لها ولحماية مصالحها فيه، في مرحلة لا يرى بري الحلّ إلا في تصحيح العلاقات السعودية ـــــ السورية. إلا إذا كان للزيارة هذه وجه غامض ومضمر يمهّد لأمر ما بين الرياض ودمشق في الوقت المناسب.