بسكال عازار
فيما يُعَدُّ الطب الشرعي وجهاً من وجوه التطوّر في نظام العدالة والتعامل الإنساني في الدول المتقدمة، إلا أنه في لبنان وجه بارز من وجوه الفساد المستشري الذي يهبط بالمواطن إلى قذارة المصالح والمحسوبيات السياسية التي تفتك بكل شيء من دون أن تستثني حرمة الموت أو الحياة و لا حتى العدالة

من اللافت أن ينهمك مسؤولون رسميون بمشروع المحكمة الدولية مدعين السعي لتحقيق العدالة، فيما الأجهزة اللبنانية غير قادرة على كشف عدد كبير من الجرائم. ويمكن اعتبار «قصور» الطب الشرعي مساهماً مباشراً في تأخر نظام العدالة في لبنان. فمن شأن تقارير الطبيب الشرعي أن تحدد حجم الأذى اللاحق بالضحيّة أو الوقوف عند السبب الحقيقي للوفاة. كما أن من الممكن أن تمثل الفاصل الأساسي، بل النهائي أحياناً، بين المتهم والضحية، لكونها من الوثائق التي يعتمد عليها رجال القضاء في إصدار أحكامهم بحق المتهم. من هنا، يجب أن يتحلّى هذا التقرير بالكثير من الحرفية العلمية والأخلاقية المهنية. وفي هذا السياق، تعرّف المادة الأولى من المرسوم الرقم 7384 الطبيب الشرعي بأنه «اختصاصي يقوم بالمعاينات الطبية وأعمال التشريح ويعطي تقارير بشأنها في الحوادث الجزائية». ومن الجدير بالذكر أن علم التشريح هو جزء لا يتجزّأ من الطب الشرعي. وقد بات إجراؤه ممكناً بواسطة المنظار أو التصوير الصوتي لعدم تشويه الجثة. لكن ما سردناه هو من عالم المثل. فالتشريح في لبنان، بحسب وصف أحد الأطباء الشرعيين الذي رفض نشر اسمه، «ليس تشريحاً، بل تشطيب، والطب الشرعي لم يعد إلا مركزاً مرموقاً أو مكتب توظيفات يعيّن فيه أطباء من غير حملة هذا الاختصاص لإرضاء جهات سياسية». بالإضافة إلى ذلك، في الوقت الذي يفوق فيه المعدل السنوي لجرائم القتل في لبنان مئة جريمة، نجد أنفسنا عاجزين عن كشف عدد كبير منها، لعدة عوامل، منها أن الطب الشرعي بعيد كل البعد عن أدنى درجات التطور. فهو لا يفتقر فقط إلى التقنيات العلمية الحديثة بل أيضاً إلى أطباء شرعيين ذوي كفاءة واختصاص.
مرسوم شرعي لأطباء غير شرعيين
تحدد المادة الثانية من المرسوم الرقم 7384 كيفية تعيين الأطباء الشرعيين، إذ تنص على أن «الطبيب الشرعي يعيّن من خلال مرسوم يتخذ بناء على اقتراح وزير العدلية المبني على رأي لجنة مؤلفة برئاسة النائب العام الاستئنافي وعضوية مدير الصحة والإسعاف العام ومدير الداخلية». ويوقع على هذا المرسوم رئيس الجمهورية، رئيس مجلس الوزراء ووزير العدل. من هنا، يتعامل الطبيب الشرعي في اختصاصه مع وزارة العدل لا مع وزارة الصحّة، عن طريق مصلحة الطب الشرعي التي تهتم بتنظيم موضوع المناوبة والمراقبة وإقامة الندوات. وبدل أن تقوم النيابة العامة بتحديد طبيب شرعي مؤهل للنظر في قضية معينة، يتصل رتيب التحقيق في المخفر بالطبيب الشرعي ليكلفه وضع تقرير. وفي هذا المجال يقول أحد الأطباء: «إن حسن علاقة الطبيب الشرعي بالمخافر هي مصدر رزقه».
إن المرسوم الموقع من وزير الصحة العامة مروان حمادة في 10/5/1993 يحدد أن على الطبيب الشرعي أن يتخصص 3 سنوات أو سنة واحدة في الطب الشرعي وذلك بعد نيله شهادة الباتولوجيا (علم الأمراض) التي تتطلب منه 4 سنوات تخصص. لكن القانون يتيح لوزارة العدل تعيين أطباء شرعيين من باقي الاختصاصات إذا تعذر وجود العدد الكافي من حملة اختصاص الطب الشرعي، لكن على هذا الطبيب أن يكون ملمّاً على الأقل بعلوم الجراحة. لكن في الواقع، بلغ عدد الأطباء الشرعيين المسجلين في نقابة الأطباء ثلاثة وثمانين، اثنان وعشرون منهم من حملة الاختصاص، فيما الواحد والستون الباقون هم خريجو دورات تدريبية. ومن بينهم، على سبيل المثال، طبيب أسنان وطبيب أمراض نسائية واختصاصي أمراض صدرية وطبيب أطفال. ولنأخذ طبيب الأطفال مثالاً: يتطلب تخصصه ثلاث سنوات لا يدرس خلالها الباتولوجيا ولا الطب الشرعي. فكيف يكون إذاً طبيب الأطفال مؤهلاً للتحقيق في ملابسات جريمة، وقد يطلب منه تشريح جثة رجل مصاب بطلقات نارية، وهو ليس متخصصاً بالتشريح ولا خبيراً بأنواع الرصاص؟
هذا الأمر يؤدي إلى تشكك بعض المواطنين بصدقية تقرير الطبيب الشرعي، ويلجأ كثير من المحامين في المحكمة إلى نقض هذا التقرير.
تشريح أم ترجيح؟
لا يقل وضع المشارح سوءاً عن وضع الأطباء الشرعيين. فللأسف، لا توجد مختبرات مزودة بتقنيات متطورة أو معدات حديثة للكشف على الضحية، بالرغم من كونها الشاهد الأصدق في العلم الجنائي. لذلك تكون أغلب تقارير الأطباء الشرعيين مبنية على الترجيح وحدس الطبيب في الموضوع، لا على نتائج علمية وموضوعية.
يتم التشريح في لبنان بناء على طلب من القضاء المختص، بمعنى أن القضاء عند اشتباهه بأن سبب الوفاة غير طبيعي يطالب بتشريح الجثة للوصول إلى سبب الوفاة، بينما يعتبر التشريح إلزامياً في عدد من الدول، حتى لو كان سبب الوفاة طبيعياً.
من جهة أخرى، من واجبات الطبيب عندما يشتبه بأن سبب الوفاة غير طبيعي أن يقوم بإبلاغ القضاء المختص عن الحالة، إذ من الممكن أن تكون جرماً.
أحياناً تقوم عائلة الفقيد بطلب تشريح الجثة، لكن عليها قبل ذلك أن تأخذ موافقة القضاء المختص، وفي هذه الحالة تتحمّل أسرة الفقيد نفقات التشريح. أما إذا جرى التشريح بناء على طلب القضاء المختص، فتتحمل الدولة عن طريق النيابة العامة كامل النفقات. لكن المضحك المبكي هو أن ثمة أطباء أقلعوا عن التعامل مع النيابة العامة لأنها لا تدفع لهم أجورهم.
والتشريح على نوعين: فإما أن تخضع الجثة للتشريح الكامل أو التشريح الجزئي. فالتشريح الجزئي يعني سحب عينات من جسم الضحية أو الجثة لإجراء الفحوصات اللازمة.
وهناك أيضاً ما يعرف بالتشريح الموضعي، أي تشريح لأعضاء معيّنة في الجسم كالقلب والرئتين. ويشتكي مدير مستشفى البوار الحكومي د. شربل عازار من كون «المشارح في لبنان غير مجهزة وغير مواكبة للعصر. فالأطباء يشرحون بطرق صعبة ورجعيّة، وأحياناً غير نظيفة. فلا أحد يساعد الطبيب في عملية التشريح لدرجة أنه يضطر إلى حمل الجثة بمفرده». ويرى عازار أنه «بالرغم من الإصرار على وزارة العدل منذ سنوات طويلة لكي تهيئ في كل منطقة مركزاً متطوراً ومجهزاً بالتقنيات الحديثة للقيام بعمليات التشريح أسوة بالدول المتقدمة، إلا أن هذا المطلب لا يختلف عن الأمور الأخرى العالقة في الدولة، فلا شيء يتم بالسرعة المطلوبة».
ويضيف أحد الأطباء في هذا المجال: «إن مستشفى بيروت الحكومي الجامعي الذي أنشئ فيه قسم للطب الشرعي لم يعمل لتاريخه بالرغم من كل الوعود، بالإضافة إلى أنه استهلك مصاريف باهظة جداً بحجة تجهيزه إلا أنه لم يجهز بشكل مثالي ولا حتى جيد حتى يستطيع استقبال كل أنواع الجرائم».