جوزف سماحة
صادر الدور السوري الحيّز الأكبر من الحقل السياسي في لبنان. «نجح» في ضبط التباين بين مشروعي «المقاومة» و«إعادة الإعمار»، وفي منع انفجار التناقض بين «الإحباط المسيحي» و«لبنان الجديد». أدّى الانكفاء العسكري السوري إلى «تحرير» هذه القوى. وما نشهده اليوم ناجم عن الاصطفاف الجديد لهذه الأطراف المركزية بعد مرورها، غداة الانسحاب، بغير محطة.
اللحظة الأولى هي 8 آذار. المقاومة وحلفاؤها يتظاهرون محدّدين لأنفسهم وجهة عامة في ما يخص الخيار الإقليمي لكن من دون القطع مع الآخرين.
اللحظة الثانية هي 14 آذار. إنه تحرك احتجاجي ضد الدور السوري وما يُنسب إليه من أفعال. لكن «ميزة» التحرّك هي أنه وضع في ساحة واحدة قوة معارضة أصيلة لهذا الدور وقوة طارئة على هذا الاعتراض. التقى «الإحباط المسيحي» الجبهةَ التي تشكل «إعادة الإعمار» عمودها الفقري. لم يطل «شهر العسل» كثيراً.
اللحظة الثالثة هي «التحالف الرباعي». نشأ «التحالف» من التقاء رغبتين. الأولى هي رغبة المقاومة في بناء منظومة دفاعية من حولها تحل محل التي سقطت، والثانية هي رغبة «إعادة الإعمار» في أن يحتفظ في عهد ما بعد الدور السوري بجانب مهم من جوانب الدور السوري: تهميش القوة المسيحية المركزية. لم يرض الجناح الإسلامي في «14 آذار» أي تقاسم جدي للسلطة مع الحلفاء المستجدين الذين يشكلون الجناح المسيحي في الحركة نفسها. كانت الرغبة، أولاً، في استبعاد «التيار الوطني» و«القوات»، إلا أن هناك من ضغط لفتح الباب وجعله موارباً لإدخال «القوات» ثم إقفال باب الانتساب.
كان «التحالف الرباعي»، بمعنى ما، استمراراً لسياسة سورية من دون سوريا. وكان يمكنه الاستمرار، وضبط تناقضاته، أو تأجيل انفجارها. إلا أن ذلك بات مستحيلاً، تحت ضغط الوضع الأمني والتدخل الأجنبي. وعندما أصبح التحالف مطالباً بأن يكون ضد سوريا كان لا بد له من الانهيار، فانهار راسماً مسافة متباعدة بين «المقاومة» و«إعادة الإعمار».
اللحظة الرابعة كانت «التفاهم الثنائي». إنه «تفاهم» يعبّر عن ازدياد التباين بين «المقاومة» و«إعادة الإعمار»، وهو «تفاهم» بين محبطي العهد السوري (التيار) ومحبطي العهد ما بعد السوري لا بل الانتي ـــ سوري (المقاومة و، هنا أيضاً، التيار). ويعبّر «التفاهم» عن ولادة لحظة تأسيسية ستتفاعل لاحقاً: انتهت مفاعيل المصادرة السورية للحيّز السياسي اللبناني فبات ممكناً للاختلاف بين «المقاومة» و«إعادة الإعمار» أن يتطوّر، كما بات تطور هذا الاختلاف عنصراً مهماً يلعب دور الرافعة لعودة مسيحيي الإحباط عن إحباطهم.
***
استكمل العدوان الإسرائيلي وطوّر اتجاهات كانت قد شرعت ترتسم قبله. ثمة ثلاث قوى سياسية (طائفية) مركزية تحررت من علاقات شبه قسرية فرضها الضغط السوري (المقاومة وإعادة الإعمار) وتحررت، أيضاً، بفعل الانكفاء السوري (التيار).
تحرر هذه القوى دفع بها دفعاً نحو احتلال الحقل السياسي اللبناني الذي كان مصادراً. إلا أن اللافت في ذلك أن هذه القوى كلها هي، بمعنى ما، وافدة على السياسة: ثمة قادمون إلى السياسة من المقاومة، وقادمون إلى السياسة من الاقتصاد، وقادمون إلى السياسة من المنفى. صحيح أن حضورهم السياسي كان ملموساً في المرحلة السابقة غير أنه حضور بقي على الهامش نتيجة الوصاية السورية بكل جوانبها.
«حركة الصفائح التكتونية» تعبير تقني يقصد التعريف بالانزياحات الجيولوجية التي تسبّب الزلازل. والزلزال اللبناني الراهن ناتج من دخول هذه الصفائح الحقل السياسي واصطدام بعضها ببعض، وبحثها عن صيغة لوجودها، وعن شكل لعلاقاتها.
يقال إن «المقاومة» انسحبت من الجنوب لتغرق في «أزقة بيروت». ليس في بيروت «أزقة» بهذا المعنى. إن في بيروت سلطة. و«المقاومة» تريد حصة في هذه السلطة. وهذا حقها. وهي تعلن استعدادها للسير في خطين متوازيين: صيغة جديدة لنفسها مقابل صيغة جديدة للدولة وتوازناتها.
والوافدون من «الإحباط» يريدون المشاركة. وهذا حقهم. وهم يرون أن هذه هي الترجمة المتوقعة لانتهاء عهد وبداية آخر.
أما الوافدون من «إعادة الإعمار» فيتصرفون كمن يريد كل شيء: المحكمة الدولية بلا نقاش، 1701 بقراءة متشددة، باريس ـــ 3 ببرنامج مطعون فيه ومشروط بقدر من الاستئثار بالسلطة. ولقد أضاف بعضهم، إلى ذلك، بعداً داخلياً للمحكمة الدولية يمكنه أن يكون صاعق تفجير. يريد هؤلاء إقصاء من قاوم سوريا ومن قاوم إسرائيل. يرون أن في وسعهم ممارسة الهيمنة على لبنان كله باستبعاد طائفة كبرى واستتباع طائفة أخرى كبرى. ولا يتنبّهون إلى أنهم بدل معالجة «إحباط» سابق ساهموا جزئياً فيه يفتعلون إحباطاً جديداً هو من صنع أيديهم وتلبية لإملاءات خارجية. إذا قرأنا الصراعات الدائرة حالياً بين هذه الأطراف نلاحظ، بسهولة، أنها تدور على عناوين ما سمّيناه «الحقل السياسي اللبناني الذي صادر الدور السوري الحيّز الأكبر منه»: الموقع الإقليمي، السياسة الخارجية، التوازنات الداخلية، الصلاحيات، التعيينات، المؤسسات الأمنية وغيرها، التوجّه الاقتصادي الإجمالي...
إن ما كان احتكاراً أصبح مشاعاً. سقط السياج من حول «الحقل السياسي» فاقتحمته قوى تتمتع بميزتين، الأولى أنها قوى مركزية جداً في الحياة العامة اللبنانية، الثانية أنها قوى تدخل إلى هذا الحقل للمرة الأولى في تاريخها محاولة تحديد موقعها في المتن بعد أن عاشت، لسنوات، على الهامش.
لقد عاشت على هامش «الطائف السياسي» مشغولة بـ«المقاومة» أو«إعادة الإعمار»، أو «رفض الإحباط». ونلاحظ أن القوى السياسية اللبنانية التي تعاطت بشكل أو بآخر مع «الطائف السياسي» تقف، في هذه المواجهة، في موقع المساند لهذا الطرف أو ذاك (حركة «أمل» مع «حزب الله»، «المردة» مع «التيار الوطني الحر»، وليد جنبلاط مع سعد الحريري...).
نخلص إلى القول بأن الأزمة الراهنة، ما دامت ناتجة من «حركة صفائح تكتونية»، ليست من النوع الذي يعرف حلاً سريعاً وسهلاً، فكيف إذا أضيف إلى ذلك أن القوى المعنية هي، بمعنى ما، قوى وافدة على الحقل السياسي.
ما هو مؤكد هو أن المشهد في لحظة الختام لن يكون المشهد في لحظة البداية. وما هو غير مؤكد هو درجة هذا الزلزال على مقياس ريختر. وما هو غير مؤكد، أيضاً، هو هل يمكن لما أنتجه «اتفاق الطائف»، نصاً وممارسة، أن يشكّل الوعاء الصالح لاستيعاب هذا الحراك الاستثنائي.