أنسي الحاج
لن يُمحى مشهد صدّام حسين وهو يستعدّ للشنق. غير معروف لمصلحة مَن صُوّر الفيلم. إذا كان «المنتج» ينوي تصغير الرجل ظنّاً منه أنه سينهار فقد خاب. وإذا كان الفيلم تتمة لتصوير تحطيم تمثال صدام في بغداد عند احتلالها فسيؤدي التصوير نتيجة معكوسة. إن رباطة جأش الطاغية الذاهب إلى المشنقة ستعيد الحياة إلى أخصام قاتليه وإلى تيّاراتهم. كان ينقص هؤلاء رئيس شهيد من مرتبة الأبطال في مواجهة الموت فأهداهم إيّاه موثّقو الموت.
كان صدّام حسين يستحقّ العقاب مئات المرّات على مئات بل ألوف الجرائم الفرديّة والجماعية والجسدية والنفسيّة بحقّ شعبه وبحقّ غير شعبه، لكن شنقه، ولأسباب كثيرة متراكمة، بدا تتويجاً لمؤامرة أكثر مما هو عقاب على جريمة.

لنبعد قليلاً عن العراق، وعن فلسطين ولبنان والصومال والسودان، وما سوف يلي.
من قريب صورة الأمور شيء ومن بعيد شيء. نادر أن تتطابق الصورة في الحالتين. إستمتاع بالفظاظة في موقف أميركا وحلفائها من العراق. فظاظة وإحتقار. واحتقار لعقل العالم. ثم هذا التجاوب العراقي مع مقطّعي أوصاله، والتعامل الأقل من تافه مع تكدّس ألوف الجثث من المدنيين ضحايا الإرهاب اليومي. حاصدة أوتوماتيكيّة لخَفْض عدد السكّان. لامبالاة مطلقة من «الأشقاء» والجيران والغرب والشرق. يد تدفع «المتفرج» دفعاً للقول: ربّما هم العراقيّون أنفسهم لا يهزّهم موتهم. ربّما طبيعة هذا الشعب دمويّة إن لم يكن ضد الغير فضد الذات. خبر أقل من عادي عن اكتشاف عشرات الجثث كل يوم. «جثث مجهولين» يقولها المذيع وكأنه يتحدث عن حرق دواليب. ويتصافح «المسؤولون» ويبتسمون للكاميرا. والسمينون منهم يزدادون سمنة.
العراق مَثَل حاد، لكن الآخرين ليسوا أفضل. وجبات الجثث اليوميّة لـ «أبرياء مجهولين» مرّت على موائد الجزائر والسودان والصومال ولبنان وفلسطين. بلدان للقتل. شعوب للذبح. «شرق أوسط جديد» للاستيلاد محل «الأمة العربيّة». شرق أوسط يجري صنعه منذ الخمسينات من القرن العشرين. عطّله قليلاً المدّ الناصري ثم جهّزه هذا المد نفسه بأقوى طاقات الاندفاع يوم راح ينحسر بفعل هزائمه العسكريّة وأخطائه السياسيّة داخل مصر (قمعاً) وخارجها (هيمنة، الوحدة مع سوريا فالانفصال، حرب اليمن و«ثورة» لبنان 1958). شرق أوسط جديد تتراءى فيه الأخطاء والكوارث والأهوال العربيّة السابقة أحلاماً لا كوابيس. أحلام لم نعرف قيمتها إلّا حين جاءنا الأسوأ. مثلاً: كيانات طائفية ومذهبية عوض تلك النصف طائفية النصف مذهبية. كيانات تهيمن عليها إسرائيل عوض تلك التي كان يهيمن عليها الطغاة تارة باسم الإسلام وطوراً باسم العروبة وأحياناً باسم علمانيّة عابرة. شرق أوسط سوق مفتوحة لاستهلاك السلع وشراء السلاح ورعاية أزماته اللانهائية الافتعال اللانهائية الاستنزاف. شرق أوسط تستكمل فيه اللغة العربية انحسارها حتّى تقعد إلى جانب السريانيّة واللاتينيّة. شرق أوسط يتذكّر عربه جمال عبد الناصر كما يتذكّر الفرنسيون اليوم نابوليون من وراء الحنين المصفّى الخادع لا كما كان عبد الناصر في نظر معارضيه. ويتذكّرون صدّام حسين (مع الفرق الضخم بينهما) كما بدا وحَبْلُ المشنقة حول عنقه لا كما كان أيام الاستبداد والبطش. وكما بدا تحت التهمة الإكراهية بتخزين أسلحة الدمار الشامل لا كما بدا أيام مجازره الجماعيّة. شرق أوسط يتذكّر عربُهُ (إذا بقيت لهم ذاكرة) «منجزات» أنظمتهم وملوكهم وشيوخهم ومخابراتهم فيترحّمون عليها لأنها، على وحشيتها وتخلّفها وفسادها، كلّ ما بقي لهم من «جذور». شرق أوسط يحلّ فيه التيه لا الديموقراطية محل قَبَليَّة والديكتاتورية، والخَبَل لا الحريّة محل الخوف والجهل.

يتساءل المرء إن لم يكن هكذا أفضل. إن لم نكن نستأهل. هل الماضي أجمل؟ أجمل ما في الماضي أنّه الماضي. الماضي هو الخيال مرتاحاً من القلق. لا نحمّلْه. لا نقدّسْه. أشرقت مرحلة النهضة ومعها الإصلاحيون والتنويريّون فماذا بقي منها ومنهم؟ عادت موجات الرجعيّة وطمست آثارهم. أطلّت نهضة ما بين الحربين ثم نهضة الخمسينات والستينات والسبعينات فماذا بقي منها؟ عادت موجات التعصّب والانغلاق وأحكمت سيطرتها. ذهب العثمانيون ثم الانكليز والفرنسيون ورانت عهود الاستقلال فماذا بقي منها؟ استعمار غير مرئي يشدّ على الخناق اقتصاداً واجتماعاً وإدارة مصائر أقوى مما كانه المرئي والمباشر. لاحت بشائر ولم يبقَ منها غير الحنين. أين ذهبت؟ من نَفَخها في صحو الزوال؟ هل فعلاً كانت؟
شعوبٌ تستمطر الأوصياء. كلما تُركت لتقرير مصيرها (!؟...) أنتجت مواسم من «جثث المجهولين». شعوبٌ مجهولة. مجهولة التاريخ الحقيقي والهوية الحقيقيّة والطبائع الحقيقيّة. أعطيتْ أضخم ثروات ماديّة حلمت بها مخيّلة وبقيت أكثريّاتها الساحقة مسحوقة بالفقر والأميّة. حوّلت كل طاقاتها إلى المُطْلَق. الحاكم المُطْلَق. الظلام المُطْلق. الصحراء المُطْلَقة. هل هناك أفظع من أن يأتي يوم تصبح فيه صورة صدام وذكراه أيقونة عجائبيّة؟ سيأتي هذا اليوم. لقد أتى هذا اليوم. لماذا؟ لأن أيّامنا تطوي الشنيع إلى أشنع. لأننا بسطاء لا نرث غير الهزائم، لا ملكوت السماوات. بسطاء نُسلّم رقابنا. نستمطر الجلّادين والسرّاقين والخَوَنة. بسطاء مجهولون أحياءً ومجهولون أمواتاً.
وما يؤلم وما يُفرح هو أننا لا ننجرف تماماً مع السقوط. لا نريد أن ننتهي مرة أخيرة. بقيّة مقاومة.
لم نتّعظ. إنها بارقة الأمل الصغيرة الوحيدة. باقٍ في هذه الأمّة مجانين وبذور جنون.

حرب العراق كانت في جانب كبير منها تلفزيونية. كذلك إعدام صدّام. العصر الأميركي. كرة أرضيّة جديدة لا شرق أوسط جديد. عالم الاستعراض. التاريخ هوليوودي. ما بعد التاريخ. بيل غيتس. نهاية التاريخ بداية انتقال التوحيد من الدين إلى الدنيا. ومع هذا فالبديل ليس الماضي.
ليس النكوص والاستسلام. هناك خيار ثالث: العودة إلى الصفر وبدء الصراع من الصفر.
صراع عقلٍ سافر بلا تغليف ولا مواربة. صراع لا يدع مجالاً للانحراف به نحو انتحاره أو جعله مطيّة للتسلّط. صراع لا يُحلّ الكوارث والأهوال محلّ العدالة والحريّة وباسم العدالة والحرية. صراع لا نخوضه بأسوأ ما فينا بل بأقوى وأجمل ما فينا ونحو أقوى وأجمل أمانينا.
دعاءٌ آخر في زجاجة يأخذها البحر.