جان عزيز
هل من رابط مباشر بين إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين يوم السبت الماضي في بغداد، والمأزق الحكومي و«النظامي» والدولتي المستمر في بيروت؟
مراقبون سياسيون توقفوا عند خلفيات الحدثين ومؤشراتهما.
في الحدث الأول، ماذا يعني إعدام «حسين السنّة»، كما سمّاه أحد المؤيدين العراقيين لصدّام، في هذا التوقيت والشكل والإخراج؟ حتى اللحظة بدت كل التبريرات المعطاة عاجزة عن تقديم إجابة «غير خبيثة» للحدث، بالمعنى الباتولوجي للكلمة والمفهوم. فالكلام عن خرق في الإجراءات، أو عن انفعالية عفوية أبداها بعض «شهود الإعدام»، أو حتى عن ثنائية في التعليمات الأميركية الرسمية... كل ذلك يبدو مقصّراً عن محو صورة رسخت كالآتي: سلطة شيعية اغتالت قيادياً سنياً، برعاية أميركية، وفي بلد بات في قلب أتون الحرب الأهلية المذهبية. مع كل ما لهذه الصورة من اكسسوارات الثأر: التحدي، الاستفزاز والتشفّي، وغيرها من تركيبات الإخراج المنقول صوتاً وصورة.
باختصار، كأنما «واضع المشهدية» تلك أراد عمداً وقصداً، كسر الأرض العراقية نهائياً، بين جبهتين وخط تماس لا ينتهي في الزمان والمكان، من صفين إلى العوجة وما بينهما في التاريخ والجغرافيا. كأن ثمة من طوى مشاريع عراق جاي غارنر وبول بريمر ودراسات أحمد جلبي وكنعان مكية التي شكلت أساسها. وكأنه قرر الانتقال نهائياً إلى «الخطة ب»: الفوضى الكابوسية المطلقة، مع العلم بأن الفسحة «البنّاءة» الوحيدة فيها، تكمن في جعلها «استراتيجيا الخروج» الوحيدة الممكنة، من فيتنام العراقية، من دون الاضطرار إلى إعادة بث شريط المروحية الأخيرة تقلع عن سطح السفارة، بعد نيّف وثلاثة عقود.
أما في الحدث الثاني في بيروت، فماذا يعني استمرار الأفق المسدود، رغم كل المحاولات والمبادرات والخطوات؟ علماً بأن القراءة الأعمق لهذا التعنت المأزقي، لا تعود إلى الطبقة السطحية من تركيبة الأزمة الحالية، بين المحكمة الدولية والتعديل الحكومي. بل تبدأ في حرب 12 تموز الماضي، وما سبقها وتخللها وأعقبها. والتعنت المأزقي المذكور يمكن رصده في ثلاث محطات أساسية على الأقل.
أولها في 21 أيلول الماضي، يوم خرج حسن نصر الله للمرة الأولى من بين ركام الضاحية الجنوبية لبيروت، ليعلن في احتفال «النصر» كلاماً ما حرفيّته: «نحن لا نقول إن هذا السلاح سيبقى إلى الأبد، وليس منطقياً أن يبقى إلى الأبد. هذا السلاح لا بد له من خاتمة ومن نهاية (...) لا نريد أن نحتفظ بالسلاح إلى أبد الآبدين». وكان واضحاً من كلام السيد، أن المعنيّ برسالته خارج وداخل معاً. فجاءه اللاجواب أولاً، قبل أن تتوالى الإجابات الأخرى الأكثر سلبية ومغزى.
والمحطة الثانية كانت في 7 كانون الأول الماضي أيضاً، يوم أعلن نصر الله نفسه أن «المقاعد الوزارية التي تعطى لحزب الله في حكومة الوحدة الوطنية سنتخلى عنها». وكان الكلام للخارج وللداخل نفسيهما. وجاءت الأجوبة نفسها، مع قدر أعلى من التصعيد.
حتى كانت المحطة الثالثة قبل أيام، زيارة وفد «حزب الله» إلى السعودية ولقاءه الملك عبد الله، قبل أن يأتي الجواب سريعاً متزامناً، خرق كل السقوف على لسان وليد جنبلاط وجلسة مجلس الوزراء ومقرراتها أمس الأول.
فهل قرر «واضع المشهدية» البيروتية، كسر الأرض اللبنانية أيضاً، ونهائياً؟
المراقبون السياسيون يؤكدون أنه لا يمكن إغفال الربط بين الحدثين والمشهدين والموقعين. أصلاً، كل التطورات التي شهدتها بيروت منذ 30 شهراً على الأقل، كانت موقّعة على الوتيرة البغدادية. ذلك أن أول التفكير في إحياء «ربيع» العاصمة اللبنانية، جاء نتيجة تعثّر البوابة العراقية كمدخل لمشروع دمقرطة الشرق الأوسط الكبير، في النصف الثاني من عام 2004. ولم يكن القرار 1559 ووقوف البوارج الغربية قبالة اللاذقية في شكل متزامن مع خطاب بشار الأسد في 5 آذار 2005، الذي أعلن فيه قرار انسحاب جيشه من لبنان، إلّا القناة الخلفية الثانية لعملية «حرية العراق» والجوار، التي انطلقت في آذار 2003.
فهل ان سقوط المشروع الأول نهائياً، بات يحتّم التخلي عن الخطط البديلة نهائياً أيضاً؟
يطرح المراقبون أسئلتهم المقلقة، فيما تضج في قراءاتهم إشارات التزكية الخطيرة: كل الأدبيات السياسية الواشنطنية تشير إلى هذا الرابط. وكل ترجماتها المزدوجة تقود إلى رحى المحاذير نفسها. فالفوضى البنّاءة التي أذاعها روبرت ساتلوف في شكل متزامن مع انتفاضة الأرز في 15 و16 آذار 2005، كانت متمحورة على خط بيروت دمشق بغداد. لا تخافوا من هزّ العاصمة الأولى، عندها تهتز الثانية، فيستقيم الاهتزاز المطلوب في الثالثة. والوجه الآخر للفوضى الذي كتبه ساتلوف نفسه قبل أسبوعين، يعود إلى المحور نفسه: لا تخافوا من تفجير بغداد. إذ لا حجارة دومينو في منطقة كل أنظمتها مهجوسة بالبقاء، ولن يجرؤ نظام على التدخل في احتضار آخر.
ماذا يعني ذلك كله؟ كأن الإطفائي الذي دخل المنطقة ليقيم مركزاً وقائياً ضد اشتعال الحرائق، بات يحتاج إلى إضرام كل المنطقة ليبرر خروجه بطلاً أدّى واجبه عبر شرف المحاولة. حتى ان ريشار لابيفيير استذكر في كتابه الأخير «الانعطاف الكبير»، ورقة إسرائيلية تعود إلى 1982، عن تفجير لبنان 5 دول، وسوريا أربعاً...
فهل تقدر «السنية السياسية» الحاكمة في بيروت، على اجتراح الاستثناء وتجنّب المهلك قبل فوات الأوان؟