جوزف سماحة
الإعدامات التالية، في العراق، ستكون «أفضل». هذا هو القرار الأميركي. قد لا يتسنّى لنا التأكد من ذلك لأن «السيئ» في إعدام صدام حسين هو العلانية التي حوّلت طقساً سريّاً بشعاً إلى مسرحية معولمة. ستبقى الصور والأصوات محفورة في الأذهان. وسيبقى مكتوباً علينا أن نقرأ ونسمع في ما شاهدناه وسمعناه المرآة العاكسة لأحوالنا كأمة في علاقاتها الداخلية وفي علاقتها مع العالم. كان إعدام الرئيس العراقي السابق لحظة نادرة لا بريء فيها. لا الحاكم ولا المحكوم. لا المسؤول عن القرار ولا موضوع القرار. حتى الشهود لم يكونوا أبرياء. الشهود في تلك الغرفة والشهود الأكثر عدداً على عراق يعيش احتضاراً مديداً على إيقاع عنف مبثوث في خلاياه كلها.
لقد مثّلت «الصدّامية» مرحلة من مراحل انحطاط الحركة القومية العربية. لقد حاولت هذه الحركة النهوض بعد عدوان 1967، إلا أن غياب جمال عبد الناصر قطع الطريق على ذلك وخاصة بعد تحوّله إلى أفول للناصرية. امتلأ الفراغ بكاريكاتورات مضحكة تمثّل «القذّافية» نموذجاً منها. واعتقد «التشبيح» اليسراوي أنه البديل. وهُيّئ للمقاومة الفلسطينية أن المستقبل أمامها. واعتقد الإسلاميون أن يوم الثأر اقترب. وأدرك المعتدلون العرب أنهم فازوا في الحرب الأهلية العربية الباردة. وصعد صدام في ظل تجاهل واسع لواقع أن أي مقارنة بينه وبين ناصر إهانة للثاني. لا علاقة الأول بالقوى اليسارية في بلاده عرفت مسار العلاقة التي أقامها الثاني، ولا إدارته لموقع وطنه ضمن الأطر الدولية مشابهة، ولا الصلات التي أقامها مع الجيران الذين عادَوا ناصر وعاداهم صدام... وبدل أن ننجح في تمثّل الناصرية وتجاوزها، شهدنا ارتداداً عليها مثّله «أبو عدي» بشخصيته، وبحزبه، وبخصوصية العراق قياساً إلى الرحابة المصرية.
كان يجب علينا أن نراجع تلك المرحلة كلها ونحاكمها. لم ننجح في ذلك. ثم إننا لم نُعطَ الفرصة.
إلا أن «الصدّامية»، بالمقارنة مع الناصرية، جزء من انحطاط عام. الفكر اليساري أمس كان أفضل منه اليوم. وكذلك الفكر الليبرالي. والفكر الديني، اليوم، في أعَمّه السائد، أكثر انغلاقاً مما كان أمس. وقل الأمر نفسه عن الثقافة والفنون والأدب... وحتى الأطروحات الوطنية للدولة القطرية باتت مدخلاً إلى الالتحاق. إذا كان يمكن القول «أين صدّام من ناصر» فإن الاستطراد واجب: أين مجيد موسى من فهد، وأين الصدر الشاب من الصدر العم، وأين الزرقاوي من حسن البنّا (حتى لا نذهب أبعد)... ومتى كان يستطيع مسؤول أن يبرّر فعلة كريهة بالقول «إن الرقص حول الجثث من تقاليدنا». نضيف أن بشراً معينين كانوا، في أنفسهم، أفضل قبل سنوات وعقود.
عاد الاستعمار المباشر. وليس أشدّ وقعاً على النفس مما يقوله «الرجل الأبيض»، تعليقاً على مشهدية الإعدام، لحظة «اكتشافه» تخلّف أبناء البلد. ينسى المستعمِر أنه لولا التخلّف لما كان انتصر. وينسى أيضاً، في هذه الحالة العراقية، المدائح التي انهالت على «الشعب العراقي العظيم» في مرحلة الوهم بأنه سيستقبل الغزاة كمحررين. فجأة يتحوّل الشعب الخاضع للاحتلال إلى عبء على من يبحث عن براءة أخلاقية حتى نكاد نسمع من أميركيين مؤيدين للحرب، أننا لم نكن نستحق الاحتلال الذي تعرضنا له. «السادية»، «الهمجية»، «الانحطاط»، «الفضيحة المخجلة»، «الاستفزاز»، «إهانة العيد»، «نكسة للحضارة»، إلخ... هذه بعض الأوصاف الأميركية من قوم مفجوعين بأننا نسبّب لهم عاراً بحكم إخضاعنا لسيادتهم.
تضيع المسؤولية الأميركية، عند أميركيين، عما جرى. الاتهامات التي حوكم بموجبها صدام ورفاقه كانت منتقاة وصدَر حكم الإعدام تثبيتاً لواحد منها دون غيره. إجراءات المحاكمة موضع طعن. ثمة محامون قتلوا. كان التسرّع سيد الموقف. جرى التحكّم بالبث المباشر. لم تفتح ملفات سابقة شائكة. ولقد تأسس ذلك كله على حرب برّرتها الأكاذيب، وعلى «آلاف الأخطاء التكتيكية»، وعلى التزوير اليومي للوقائع والإمعان في الإنكار، وعلى غوانتانامو وأبو غريب ورفض مساءلة الجُناة، وعلى مئات آلاف القتلى، وعلى حُديثة، وعلى جرائم لا حصر لها، وعلى تفكيك الدولة وتهديد شعب بتقاتل لا ينتهي، وعلى خرق القوانين الدولية، وعلى مخالفة الرأي العام الدولي، وعلى... لقد أدخل العراق (والمنطقة؟) إلى جحيم يرقص موفق الربيعي فوق جمراتها معتقداً أنه يؤدي رقصة الثأر ضد عدو!..
لا يستطيع مسؤول أميركي الادّعاء أنه مخدوع. فللولايات المتحدة مع المعارضة العراقية، بأطيافها، تاريخ وعلاقات وتمويل ومؤتمرات وبرامج. إلا أن شهية الحرب أعمت عن التبصّر، وزاد في ذلك أن غطرسة القوة اعتقدت أن في وسعها إزالة مفاعيل الجهل. تعرف الإدارة الأميركية المعارضة العراقية، لكنها لا تعرف العراق. والرئيس بوش، قبل أسابيع من الغزو، لم يكن يدرك الفرق بين السنّة والشيعة. وثمة آخرون اليوم، في مواقع المسؤولية المباشرة، لا يدركون هذا الفرق لكنهم يرون أن في إمكانهم إذابته بفارق من نوع آخر هو ذلك الخاص بما اعتقدوه قوة أميركية هائلة.
لحظة الإعدام تعيدنا إلى ما قبلها. لو كان الشعب العراقي جاهزاً فعلاً للديموقراطية بكل ما تعنيه وما تشترطه من مقدمات، لكان، ربما، نجح في تغيير النظام. كان يستطيع العراق، طبعاً، الانتقال إلى حالة أرقى من الحالة «الصدّامية» وبمساعدة من الخارج. لكن الذي حصل هو أنه تعرّض لعملية قيصرية قبل أوانها فجاء المولود على شكل شياطين أفلتت من عقالها. وكم كان بوش ذرائعياً وكاذباً ومضحكاً وهو يمتدح الانتخابات متجاهلاً أنها اتخذت، حتى النهاية تقريباً، شكل «التصويت الحربي»، شكل «الحرب الأهلية في الصناديق». وها نحن نراقب النتيجة اليوم: محكوم بالإعدام يتماهى معه عراقيون وعرب ومسلمون وحاكم بالإعدام (قال عنه بوش قبل أسابيع «إنه الرجل الأفضل للعراق») عاجز عن ضبط غرفة تضم نحو عشرين شخصاً.
لقد أوغل الإعلام الأميركي في «شيطنة» صدام. حصل ذلك من أجل تبرير الحرب طبعاً. لكنه حصل، أيضاً، كبدل من ضائع هو وعي العراق بتعقيداته ومشاكله وتاريخه، ووعي المنطقة وقضاياها. ولقد رفض الاحتلال رؤية خطوط التشابك والتقاطع بين العراق ومحيطه واكتشاف الأواني المستطرقة الثقافية والسياسية بين الطرفين، وأصرّ على أن أي دولة أجنبية، مهما كانت صورتها سلبية، قادرة، بالقوة والعنف، على أن تجعل الديموقراطية تلي الديكتاتورية كما يلي الثلاثاء الاثنين. لا عجب، والحالة هذه، ألاّ يقدّر حكام العراق الجدد وقع مشهدية إعدام «الشيطان» خاصة في بلد «يتميّز» بأنه يطبّق العقوبة نفسها على قاصر ولو متخلّفاً عقلياً، وعلى رئيس ضرب الرقم القياسي، أثناء حاكمية تكساس، في تطبيق العقوبة القصوى.
ثمة خشية في واشنطن من تأثير العقوبة على السياسة الأميركية في لحظة السيولة التي تمر بها. لا ضرورة لذلك. وثمة خشية من التأثير على العالمين العربي والإسلامي وزيادة الانقسام فيهما. يمكن، هنا، توقّع المزيد من السوء. فثمة نخَب عندنا ترفض تحمّل مسؤولية سلطتها وتتضامن مع «الضحية» بشكل يجعل «شجرة» نوري المالكي قادرة على حجب «غابة السياسة الأميركية». وثمة نخَب تزداد توتراً وتتصرف كمَن يحاول استبدال الأدوار لا تغيير قواعد اللعبة، وتتناسى أنها باتت في موقع يمنعها، من حيث المبدأ، من التماهي الكامل مع فريق هو شطر من انقسام أهلي.