جوزف سماحة
بلد يعيش تقلّبات مستمرّة. الهوّة بين طوائفه تتعمّق وتهدّد وحدته. تزيد مشاكله من هشاشة الاستقرار في المنطقة بحيث يشعر كل بلد آخر بأنه قلق على أمنه واستقراره. وفّر حقلاً جديداً يتّسع الإرهاب فيه. أصبحت الأولوية، أكثر من أي يوم مضى، إعادة السيادة الكاملة إلى مواطنيه... سيتعرّف لبنانيون كثيرون على بلدهم في هذا الوصف. لكن ربما فوجئ البعض منهم بأن المعني هو العراق. وقد يشكل عزاءً، بالنسبة إليهم، أن الفارق هو في الدرجة لا في النوعية وأن المستقبل «العراقي» للبنان لا يزال بعيداً إلى حد ما لكنه لم يعد مستحيلاً.
الكلام السابق هو على العراق طبعاً. وقد أورده الرئيس الفرنسي جاك شيراك في خطابه السنوي (الأخير) أمام السلك الدبلوماسي. وجاء ذلك في معرض انتقاد ضمني لـ«المغامرة» الأميركية في العراق التي سبق لفرنسا أن «توقّعتها وتخوّفت منها». غير أن من الواضح أن سيد الإليزيه، إذ ينتقل بعد فقرات، إلى الحديث عن لبنان، يتجاهل تماماً الدرس العراقي ولا ينتبه إطلاقاً إلى أن باريس إنما تقدم، في بيروت، على «مغامرة» تجعل الأفق الوحيد المتاح للبنان أفقاً عراقياً.
كانت الأيام الأخيرة موسم الخطابات الوداعية لشيراك. ففرنسا داخلة إلى حمّى الحملة الرئاسية في ظل أجواء توحي بأفول «الشيراكية». و«الشيراكية» المشار إليها هي نسخة عن نيو ـــ ديغولية سيسجّل لها، أو عليها بالأحرى، أنها أدّت دوراً كبيراً في المساس بالإرث الداخلي والخارجي للجنرال.
الخطاب أمام السلك الدبلوماسي محشوّ بالنيات ومتميّز بلفظيّة إطنابية تفشل في ستر الفراغ. يصعب القول عنه إنه وصيّة من شيراك إلى خلفه. فشيراك عاجز عن اقتراح مثل هذه الوصيّة لأنه يعيش نهاية ولاية حزينة يبدو فيها أنه لا يملك سوى ورقة غير مقنعة هي ورقة التلويح بالترشّح مجدداً. وإذا كان مقدّراً للمعركة الرئاسية المقبلة أن تدور بين سيغولين رويال ونيكولا ساركوزي فإنها ستدور تحت عنوان «القطيعة» مع العهد الحالي والرغبة في التخفّف من أعبائه. قد لا يعني ذلك أن جديداً ستشهده فرنسا. لكنه يعني أن المسافة المعلنة عن الرئيس الحالي هي ورقة انتخابية رابحة تحدّد هوية الرئيس التالي.
حدّد شيراك، في خطابه، الشرق الأوسط بصفته المسرح الأبرز للسياسات الدولية في هذه المرحلة. وتحدّث عن عالم مهدّد بنزاع الحضارات وباستمرار الفقر وبتلقّي آثار عولمة خانت وعودها. وكان واضحاً أنه يقبل أي حكم على سياسته الخارجية انطلاقاً من الذي قام به في الشرق الأوسط.
عراقياً، الدور الفرنسي هامشي. لا بل يمكن القول إنه في الوقت الذي تأكدت فيه المخاوف الفرنسية من الحرب كان شيراك يباشر عملية تقارب مع الولايات المتحدة.
فلسطينياً، الدور الفرنسي هامشي. فهو غارق بادئ ذي بدء في الدور الأوروبي وهذا، بدروه، غارق في «الرباعية» الغارقة، هي الأخرى، في وحل الإملاءات الأميركية.
إيرانياً، الدور الفرنسي هامشي. ارتبط، لمرحلة، بـ«الترويكا الأوروبية» ثم، في مرحلة لاحقة، بالدول الأعضاء في مجلس الأمن زائداً ألمانيا. ثمّة قدر من التميّز لجهة الخطاب المعتمد حيال طهران لكنه تميّز لا يؤسس لسياسة.
أما حيث يمكن الزعم أن لفرنسا تأثيراً فهو لبنان والعلاقات اللبنانية ـــ السورية. تبدو فرنسا، هنا، صانعة للحدث. إلا أن ما نلاحظه أن مساهمتها أبعد ما تكون عن المبادئ التي يرفع شيراك لواءها: الاستقرار، السلام، مكافحة نزاع الحضارات، التصدي للفقر...
ومع أن الوسائل مختلفة، والنتائج متباينة قليلاً، فإن باريس تكرّر، في لبنان، الأخطاء التقليدية لسياسات غربية حيال المنطقة. بدأ ذلك منذ اعتماد القرار 1559 واستمر حتى التسامح مع العدوان الإسرائيلي في بداياته. وقد جاء الخطاب الأخير ليؤكد أننا بعيدون جداً عن المراجعة المطلوبة.
تدفع فرنسا لبنان دفعاً نحو سياسة تتجاوز قدراته الموضوعية: استعداء سوريا ونزع سلاح المقاومة. أي إنها تطرح عليه أسئلة لا يملك أجوبة عنها. وتصطف باريس بانحياز بيّن إلى جانب فريق من اللبنانيين ضد فريق آخر غير مبالية بالآثار التدميرية التي يحدثها ذلك على بنية النسيج الوطني. ومع أن «الإدارة الفرنسية» تقول العكس، فإن لبنان متحوّل إلى ساحة لتصفية الحساب مع سوريا، ولتحريض «المعتدلين العرب» عليها، ولقطع الطريق على أي تسوية إقليمية تأخذ في الاعتبار مصالح دمشق.
يقترح شيراك على اللبنانيين في خطابه، وباسم «متابعة علاقات الثقة مع الطوائف كلها»، برنامجاً انقسامياً من الدرجة الأولى: الالتفاف حول هذه الحكومة الشرعية، المحكمة ذات البعد الدولي من دون نقاش، باريس ـــ 3 برغم إقرار خطته خارج أي توافق (حصل تناسٍ مقصود لـ1701). هذه العناوين ليست بريئة. إنها، بالضبط، المجالات التي «يمارس» فيها اللبنانيون خلافاتهم. وتبنّيها، بهذا الابتسار، من جانب الرئاسة الفرنسية، يؤكد المخاوف كلها من العرقلة لإيجاد تسويات داخلية عليها.
يقرر شيراك، محقاً، أننا في كون معولم بحيث إن مفاعيل الأزمات تهدّد الاستقرار خارج بؤرها الأصلية. لكنه لا يستنتج من ذلك أن هذه المقولة أشدّ انطباقاً على المشرق العربي. يعترف، خلافاً لرأي واشنطن، بمركزية القضية الفلسطينية، ويساجل ضد سوء التقديرات الأميركية في العراق، لكنه يمارس تلاقياً كاملاً أو شبه كامل مع سياسة الولايات المتحدة في لبنان. يتصرّف كأنه يريد إبلاغنا أن أميركا مخطئة في الشرق الأوسط كله إلا أنها مصيبة في لبنان. إلا أن ما نفهمه فعلاً من خطابه وسياسته هو أن سياسته في لبنان هي صيغة لانضمام فرنسا إلى الأخطاء الأميركية الإقليمية.
ولأن الأمر كذلك فإن «فرنسا اللبنانية» هي عنصر ضغط داخلي أميركي لتطويق الاقتراحات الواقعية المطالبة بمقاربة عراقية وإقليمية مختلفة تضع الحل العراقي في سياق تصوّر شامل للمنطقة. بمعنى آخر، ليس شيراك حليفاً لبوش في لبنان فحسب بل إنه، انطلاقاً من لبنان، حليف له في المغامرة التي سبق له انتقاده عليها.