كلمة لا بدّ أن تقال
بقلم الأسير العربي السوري داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي
صدقي سليمان المقت ــ الجولان المحتل


لقد كان الانتصار الكبير الذي حققه حزب الله مدوياً، فقد حمل المشهد اللبناني المقاوم كل عناصر النصر الأسطوري، إذ تكشّف المشروع الأمبراطوري الأميركي الصهيوني في بؤرة ضيقة حدودها المقاومة، وفي زمن لا يقبل أي توقيت إلا إذا كان مضبوطاً على ساعة واشنطن وتل أبيب وفي مكان أريد له أن لا يتسع إلا لقطيع من الأغنام، يساق الى الذبح والمسلخ دون أن يملك أي قرار في الاعتراض على لون وشكل السكين. في وجه كل ذلك، وقف حزب الله محطماً المشروع الأميركي، معلناً ميلاد تقويم جديد على إيقاع ساعة بيد مقاتل في بنت جبيل ومارون الراس وعيتا الشعب. هناك في ذاك المكان الذي لن يتسع بعد الآن إلا للشرفاء وأصحاب الكلمة والإرادة الحرة هناك حيث سالت الدماء الطاهرة لترسم من جديد معادلة وقوانين الصراع. هناك حسم كل شيء. فلا ثقافة بعد الآن إلا لثقافة المقاومة. وأي كلام بعد الآن ليس فقط فارغاً وتافهاً، بل ساقط ومشبوه إن لم يعبر عن إرادة وفكر وثقافة المقاومة. انتصر حزب الله وانتصرت معه المقاومة في فلسطين والعراق وانتصرت معه أيضاً سوريا قيادة وشعباً، سوريا المندمجة فكراً وثقافة، عسكرياً وسياسياً ونضالياً مع كل تفاصيل ما حدث على أرض الجنوب، وانتصرت أيضاً الشعوب العربية التي تفاعلت مع هذه الحرب بكل وجدانها وضميرها الحي، وانتصرت أيضاً إيران الحليف القوي الذي يشكّل عمقاً استراتيجياً لا بد منه في صراعنا مع إسرائيل. وبالمقابل، هزمت إسرائيل عسكرياً وسياسياً ومعنوياً، وهزم المشروع الأميركي. لا بل أكثر من ذلك، فقد هزمت إسرائيل أمام أميركا ذاتها، وما عادت قادرة على تسديد فاتورة الحسابات الأميركيه في المنطقة وهذا ما تجلى بكل وضوح أثناء الحرب عندما كانت تصرّ وزيرة الخارجية الأميركيه على مواصلة القتال في حين أن إسرائيل كانت مستعجلة على الخروج من هزيمتها وعلى إنهاء الحرب. الى جانب النصر المدوّي الذي حققه حزب الله، كان هناك سقوط في أماكن عديدة من الوطن العربي. وبقدر ما كان النصر قوياً وكبيراً ومحط فخر واعتزاز، كان السقوط أقوى وأشد ومحط احتقار يثير التقزّز
فهو أولاً وقبل كل شيء سقوط طبقة سياسية تحكم معظم البلدان العربية، طبقة ليس لديها أي مشروع ولا تملك أي مبرر لوجودها ولشرعيتها سوى تلقيها التعليمات الصادرة من واشنطن وتل أبيب واللهاث وراء تطبيقها.
وعندما بدأت المعركة على أرض الجنوب وقفت هذه الطبقة فرحة تنتظر الخلاص من ذلك الهمّ الذي يرعبها ألا وهو حزب الله. وقفت تنتظر الخلاص الذي سيأتيها من إسرائيل ويريحها من هذا الكابوس الذي يزعج نومها وأحلامها ويزيح عنها ورقة التوت ليكشف عريها القبيح. انتظرتها أوساط سياسية عديدة وفي أكثر من مكان من الوطن العربي. في الرياض والقاهرة وبيروت وعمان وغيرها الكثير. معركة طالبوا ذليلين بأن تقوم إسرائيل بها نيابة عنهم، هو ذات الدور الذي كانت تلعبه في الماضي. لكن هذه المرة خرجت الى العلن وما عادت تخجل من نفسها ومن شعبها. لقد تعرّت كلياً وما عاد شيء يخبئ عورتها وعهرها ودعارتها. خرجت تعلن ولاءها ودعمها لإسرائيل. لقد حسبت حساب كل شيء، لكنها أخطأت في مسألة بسيطة جداً وهي أن النصر لن يكون حليف إسرائيل هذه المرة. وهنا تغير كل شيء وبدأت أحجار الدومينو في السقوط. جمعتهم أميريكا وإسرائيل مقنّعين عراة على المنصة كي يكونوا أبطال المرحلة المقبلة. وفي لحظه قام أبطال الجنوب بإزالة الأقنعة عن وجوههم، فظهرت الحقيقة وتبيّن أن وراء تلك الأقنعه وجوهاً وأسماء لها تاريخ طويل في الخيانات والتواطؤ والتبعية للأجنبي وخدمة لمصالح إسرائيل والطعن بمصالح الشعوب العربية. سقطت الأقنعة، وقريباً سيسقط أصحابها أيضاً.
وثانياً، فهو سقوط شريحة واسعة من المثقفين والباحثين والكتّاب والخبراء العرب، شريحة ملأت الدنيا ضجيجاً وهي تتحدث، عبر سنوات طوال بكل قضايا الدنيا، شريحة تدّعي إلمامها بكل شيء من تنوير وحضارة وحداثة وعولمة وفكر وثقافة واقتصاد وكل شيء. أسماء ووجوه ملأت شاشات التلفزيون، وتحتها كتب إما باحث أو كاتب أو خبير الخ. وعندما حصلت المواجهة الكبرى على أرض الجنوب المقاوم غاب الكتاب والباحثون والخبراء والمحللون في غالبيتهم. كل ارتمى في حضن الطبقة السياسية الساقطة تلك. صمّت آذانهم وقطعت ألسنتهم. غابوا، اختبأوا عندما بدأ الرصاص يتكلم. وما عادت شاشات التلفزيون تتسع إلا لبطولات المقاومين ولصور جرائم الاحتلال.
وثالثاً، فهو سقوط شريحة واسعة من علماء الدين الذين كانوا يفتون بكل أمور الدنيا والآخرة وبكل أحوال الأمة. وعندما كانت الأمة في خطر أثناء العدوان، أفتى هؤلاء العلماء من تل أبيب وواشنطن بالجهاد ضد الشيعة.
ورابعاً فهو سقوط أسماء ومؤسسات وجمعيات حملت عناوين ومبادئ عريضة مثل (الديموقراطية)، حقوق الإنسان والمواطن، الحريات والأقليات.