نقولا ناصيف
يعتقد الرئيس نبيه بري أن إقدام قوى 14 آذار على جمع الغالبية النيابية في جلسة عامة لمجلس النواب، خارج ساحة النجمة، برئاسة نائب رئيس المجلس فريد مكاري، يُسقط آخر ما بقي من ضمانات رجاء بالحلّ. والواقع أن المداولات التي رافقت اجتماع أركان المعارضة البارحة في الرابية، بيّنت حجم السباق المحموم بين مباشرة تصعيد «الاحتجاج العنفي» ومحاولة تجنبّه وإعطاء فرصة إضافية لحل سياسي يعرف رئيس المجلس أنه أضحى متعذّراً. ولا يزال برّي يقول أمام زواره إنه يريد تجنّب إقفال الطرق الرئيسية والمطار والمرفأ تفادياً لما قد يكون أسوأ من الوضع الراهن في مواجهة حكومة يصرّ على استقالتها أو سقوطها. وتنبع خشيته من احتمال وقوع ضحايا، ما يقضي نهائياً على آمال التسوية. وهو إذ يتمسّك بالتريث، فإن رفاقه في قوى المعارضة قد توغلوا بعيداً في الانتقال بالشارع من الاعتصام إلى «الاحتجاج العنفي»، من غير أن يستبعدوا كلفة ما لإسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة.
بيد أن برّي يرى أن مغامرة التئام الغالبية النيابية بمعزل عن دعوته هو المجلس إلى الانعقاد، لا تقتصر على مخالفة أحكام النظام الداخلي للمجلس، بل تُسقط أيضاً الجانب الميثاقي في اتفاق الطائف بالتعرّض لصلاحيات رئيس مجلس النواب، المماثلة في المحتوى والدلالة الميثاقية لتلك التي لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء. وكما سبق لرؤساء سابقين للحكومة رفض مسّ صلاحياتهم باجتهادات ومخارج أوجبتها خلافات سياسية، فمنعت حلول توقيع نائب رئيس الحكومة محل توقيع رئيس الحكومة، وعُدّ الأمر آنذاك استهدافاً لطائفة ومكانة مذهب في معادلة المشاركة والتمثيل والتزام الميثاق، فإن القياس نفسه يصحّ على صلاحيات رئيس المجلس التي جعل منها اتفاق الطائف صلاحيات طائفة في «سيبة» المثالثة من ضمن المناصفة.
حمل ذلك برّي على إعلان رفضه تسلم مشروع قانون (المحكمة الدولية الذي لم يُحل أساساً على المجلس) لا يحمل مرسوم إحالته توقيع رئيس الجمهورية، تفادياً لتسجيله سابقة انتقاصه من صلاحياته الدستورية. تبعاً لذلك أوفد إلى البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير رسولاً يحمل الرسالة الآتية: «ما تُقدِم عليه الحكومة مخالفة للدستور. وخشيتي أن يبقى الرئيس لحود في منصبه وتطير صلاحياته».
ولأن اللبنانيين لا ينسون السوابق التي تمر بهم، ولا يملّونها، فإن التعامل مع منصب نائب رئيس المجلس على أساس كونه بديلاً سياسياً من رئيس المجلس بسبب الخلاف معه لا يكتفي بتصعيد التشنج، بل يضفي عليه بعداً مذهبياً خالصاً وينكأ جروحاً عرفها عهدا الرئيس الراحل الياس الهراوي والرئيس الحالي، ويعرفها بعض سياسيي الغالبية والمعارضة وقد خبروا نتائجها الخطيرة.
أول تلك الجروح خلاف نشأ عام 1998 بين الهراوي ورئيس الحكومة رفيق الحريري على مشروع قانون اختياري للزواج المدني تقدّم به الأول ورفضه الثاني بحجة تعارضه مع الدين الإسلامي. ومع أن مجلس الوزراء صوّت عليه في 18 آذار بغالبية 21 وزيراً (بينهم وزراء بري الثمانية) وعارضه وزراء الحريري الستة، رفض الأخير توقيع إحالته على مجلس النواب، متخطياً موافقة أكثر من ثلثي مجلس الوزراء، ما حمل الهراوي في اليوم التالي على استخدام صلاحيته المنصوص عليها في المادة 53 من الدستور، بأن وجّه رسالة إلى البرلمان ربط فيها مشروع القانون بمباشرة تأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية تطبيقاً للمادة 95. وقتذاك استنفرت المراجع الدينية السنية تضامناً مع الحريري، فأعلن مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني بعد أيام في 22 آذار، أن «مَن يطبّق المشروع خارج عن الإسلام»، وحصل سعي لدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين لمناوأة برّي في موقفه المؤيد لرئيس الجمهورية ما دام المشروع اختيارياً. ثم ارتأى شمس الدين عدم التدخّل في مشكلة اعتبرها سياسية. كان بري ليلة 18 آذار يتعشى في منزل النائب بطرس حرب عندما قال له الرئيس عمر كرامي إن المشروع هو «ضد الدين». وسرعان ما همس برّي في إذن الهراوي في الساعات التالية باقتراح مؤداه أن يوقع المشروع نائب رئيس الحكومة ميشال المر في غياب الحريري، الكثير التغيّب عن البلاد، ويحيله على مجلس النواب. فاعتبر الرئيس الراحل أن محاولة كهذه تستهدف صلاحيات رئيس مجلس الوزراء السني وتعتدي عليها وتمس الجانب الميثاقي في اتفاق الطائف، هو الصلاحيات الدستورية المدوّنة للرؤساء الثلاثة. ونظراً إلى المسار المذهبي الذي سلكه مشروع الهراوي، اكتفى مجلس النواب في جلسة 28 تشرين الأول بتلاوة رسالته تلك قبل أقل من شهر على انتهاء ولاية الرئيس السابق للجمهورية. وإلى اليوم لا يزال المشروع في الأدراج لأن التوقيع الدستوري السني لم يمهره.
وثاني الجروح مشكلة مشابهة عرفها لحود إثر صدور حكم بإعدام قاتلين، فقرّر رئيس الجمهورية تنفيذه، فيما رفض رئيس الحكومة سليم الحص توقيع مرسومي التنفيذ لأسباب واقتناعات مبدئية وإنسانية. كانا الحكمين الأولين في عهد لحود، وهما في حق المجند فادي أحمد مرعش ومحمد محمود الحسين، وتسبّب الأمر بخلاف في مجلس الوزراء يوم 22 آذار 2000. يومذاك ذكّر المر، نائب رئيس الحكومة، بمشكلة مماثلة مع الحريري الذي كان قد أحجم في العهد السابق عن توقيع مرسوم تنفيذ حكم بالإعدام أصرّ عليه الهراوي. قبل 24 ساعة من جلسة مجلس الوزراء أبلغ وزير العدل جوزف شاوول الحص أن توقيعه المرسوم يرمي إلى تحقيق اكتماله ولا يرتب أي مسؤولية، خلافاً للمراسيم الاخرى التي يناقشها مجلس الوزراء ويصوّت عليها وتوجب توقيع رئيس الوزراء والوزير المختص، وأن العفو حق دستوري مطلق واستنسابي لرئيس الجمهورية. عندئذ طُرِح اقتراح بأن يتولى المر، بتكليف من الحص، توقيع المرسومين بعد أن يغادر الأخير إلى الفاتيكان، لتنفيذهما. وقد مكثا في أدراج رئيس الحكومة ثلاثة أشهر من دون توقيعهما، وفي الوقت نفسه حافظ على موقف الانسجام مع النفس للدوافع الإنسانية تلك. وهذا ما حصل. وقع المر المرسومين في 17 آذار في غياب الحص، ثم وقعهما لحود توطئة لتنفيذ حكمي الإعدام فجر 20 آذار. لكن الحص خابر شاوول في 18 آذار وطلب منه تجميد التنفيذ بعدما هبّت عاصفة سنية على الحص كان الحريري، في موقع المعارضة، أبرز دعاتها رافضاً مسّ صلاحيات رئيس الحكومة السني عبر تفويض صلاحياته إلى نائب رئيس الحكومة الأرثوذكسي وتوقيع المراسيم عنه في غيابه. فكان أن تريّث رئيس الجمهورية في التنفيذ بعدما اتخذت المشكلة بعداً مذهبياً خطيراً، فضلاً عن أن التعرّض لصلاحيات رئيس الحكومة في غيابه «مخالفة دستورية» كما وصفها الحريري بعد ساعات على توقيع المر.
ما حصل في آذار 1998، تكرّر في آذار 2000. وها هو يتكرّر اليوم في موقع آخر هو رئاسة المجلس. لكن جرس الإنذار المذهبي هذه المرة أقرب إلى كارثة.