إبراهيم الأمين
لم يكن الاعتصام النقابي ــ السياسي أمس معبّراً عن جديد نوعي من جانب المعارضة. بدت الحركة أقرب إلى «زكزكة» لا يمكن أن تدفع إلى تغيير كبير. والأسئلة الكثيرة التي راجت أمس عن حقيقة ما حصل، وإذا ما كان الأمر مقدراً بهذا الشكل أم أن هناك ثغرة ما؟ هي أسئلة طرحت في وقت سابق على قرار قوى المعارضة المضي في المعركة، ولا سيما أن هناك قدراً لا بأس به من التباينات التي تقوم بين أقطاب في المعارضة بصورة تؤثر فعلياً على المرحلة الثانية من التحرك، وسط اشتداد الحملة من جانب فريق السلطة تحت عنوان أن المعارضة فقدت زخمها السياسي والشعبي وأنها في طريقها إلى الانهيار. وهذه القراءة تعني أن السلطة ليست في وارد تغيير موقفها أو سلوكها، لا بل إنها تكون أقرب إلى تصعيد مقابل تحت عنوان إهمال الآخرين.
قبل أسبوع تداعى أقطاب المعارضة إلى اجتماعات عدة. كان الأبرز فيها اجتماع في الضاحية الجنوبية بين السيد حسن نصر الله والنائب السابق سليمان فرنجية، أعقبه لقاء بين الأخير والعماد ميشال عون في الرابية وسبقه وتلا ذلك اجتماعات تشاورية مباشرة مع الرئيس نبيه بري ومع بقية أقطاب المعارضة من القيادات السنية. كان النقاش يتركز على سبل تفعيل التحرك بعدما بدا أن السلطة امتصت جانباً من الصدمة التي أحدثتها المرحلة الأولى من التحرك المعارض. وحصلت مراجعة لنتائج الجولة الأولى والوقت الذي ضاع بسبب المبادرات الداخلية والعربية التي ذهبت من دون نتائج والتي عكست حجم التغطية العربية والدولية للحكومة الحالية من دون أن يدفع ذلك قوى المعارضة إلى التراجع.
وإذا كانت قوى المعارضة تدرك البعد الإقليمي والخارجي للمواجهة الدائرة في لبنان الآن، إلا أنها، كما السلطة تعرف أن العنصر الداخلي هو الحاسم في أي ملف، وأن القوى الخارجية لا يمكنها أن تبني شيئاً من دون توافر العناصر الداخلية، وهي شعرت في الوقت نفسه بأن السلطة التي تستعين بقوة بالعنصر الخارجي، اتجهت صوب مرحلة من التصعيد من خلال البحث في إقرار قانون المحكمة الدولية من دون الحاجة إلى توافق داخلي وأنها تمضي أيضاً نحو صياغة سياسية اقتصادية ومالية تنهك الدولة بأجملها دون العمل على توفير توافق داخلي لهذه الخطوة الكبيرة، ما يعني برأي المعارضة أن عليها الإقدام في المقابل على خطوات من شأنها تعكير حركة الحكومة الحالية.
وبناء عليه، فإن ما وصف سابقاً بالتردد في الشارع المسيحي إزاء المشاركة الكاملة في التحرك بدا أنه غير قائم بصورة جدية، بدليل أن القوى المعارضة ذات النفوذ الأكبر في الشارع المسيحي، والمقصود هنا التيار الوطني الحر وتيار المردة، وما هو موجود أصلاً من نفوذ لقوى وأحزاب أخرى منها الحزب السوري القومي على وجه التحديد. وهذا ما يفترض في المقابل وضع خطة عملية لتفعيل تحرك هذه القوى في الشارع المسيحي نفسه، برغم التراجعات الجدية في نفوذ قوى السلطة في الشارع المسيحي، إذ بدا أن موقف الكنيسة الرافض للتحركات الشعبية غير كاف لمنع غالبية المسيحيين من التعاطف مع التحرك من جهة، ومن مشاركة قسم لا بأس به منهم في التحركات الشعبية. لكن النقطة الحرجة أو الخلافية تمثلت في موقف التيار الوطني الحر من آلية التعاون مع الحزب السوري القومي الاجتماعي، وهو موقف يرده العونيون الى تاريخ العلاقة المتأزمة على خلفية الموقف من سوريا من جهة والدور الذي لعبه القوميون في المناطق المسيحية بعد توقف الحرب الاهلية، الى جانب منافسة محلية تجري في بعض المناطق علماً بأن القوميين لا يتصرفون على ان التيار العوني خصم لهم ولا التيار يرى في الحزب القومي منافساً من النوع الذي يتطلب الخشية والحذر في التعامل. ثم جاءت الحملة على القوميين على خلفية التوقيفات الاخيرة في الكورة واتهام الحزب السياسي بالوقوف وراء أعمال أمنية ضد أقطاب وقوى من فريق 14 آذار. ومع ذلك فإن التوافق على خط المعارضة قلص من حدود النفور السياسي، ولكنه لم يلغ التباين الكبير، وهو الأمر الذي كان حاضراً في طريقة التنسيق لتحرك المعارضة.
في الجانب الآخر كانت المشكلة في موقف الرئيس بري، إذ رغم أن فريق السلطة انتقل الى الهجوم المباشر على الأخير، إلا أن اجتماعات قوى المعارضة الرئيسية أو تلك التي تجري بقصد التنسيق، دلت على ثغرة ما في سلوك حركة «أمل»، وهو ما استدعى مداخلات ومناقشات من قبل الأقرب اليها، علماً بأن السيد نصر الله كان يلح من دون توقف على عدم إقحام الرئيس بري تحديداً في أي أمر من شأنه إثارته ودفعه إلى موقف آخر. كما أن الآخرين من قوى المعارضة يتصرفون على أن بري يمثل بموقعه السياسي العام والدستوري سنداً كبيراً في هذه اللحظة السياسية الحرجة.
ويبدو من المناقشات أن بري لا يؤيد بقوة التصاعد السريع للتحرك، وهو يعكس من خلال المبادرات التي عرضها رغبة في تسوية من النوع الذي لا يأخذ بعين الاعتبار كل متطلبات المعارضة، وخصوصاً أن مبادرته الأخيرة لم تحمل جديداً من النوع الذي يغري المعارضة بنصر حقيقي على فريق السلطة. وبدا أنه على الرغم من أن بري نقل مبادرته الى كل من نصر الله وعون وفرنجية ثم أرجعها مع آخرين من الأقطاب السنة، فهو شعر بأن الأمر ليس سهلاً، وإن كان يتكل على هروب فريق السلطة الذي لا يبدو أنه يريد حلاً بسبب أن القيادة الأميركية ــ الفرنسية له لا تريد هذا الحل الآن.
وفي الاجتماع الأخير بدا بري أقرب إلى تصعيد هادئ من النوع الذي لا يلائم القوى الأخيرة في المعارضة، حتى أنه ظهر وجود تحالف جدي بين معظم قوى المعارضة يتطلب تصعيداً جدياً مقابل تردد من جانب بري وحده وبعض القيادات التي تظهر خشية من نقل الأمور إلى مواجهات غير مرغوبة. ومع ذلك فإن بري وافق في الأخير على آلية من شأنها إفساح المجال أمام تصاعد تدريجي في تحرك المعارضة الاحتجاجي، وبما يتطلب إلغاء كل أنواع التحفظ التي قامت سابقاً. وهو الأمر الذي يتم بصورة تحتاج إلى آليات خاصة.
أما الأمر الآخر فيتصل بدور القوى ذات النفوذ في الشارع السني التي تبرز احتجاجات منطقية بعضها يتصل بآلية التنسيق التي تبقى محصورة بشكل فعلي بين نصر الله وبري وعون وفرنجية، وبعضها الآخر يتصل بالحساسية السياسية والبنود غير السياسية في جدول الأعمال التي يجب أن تشمل، حقيقة لا من باب التكتيك، الأمور الاقتصادية والاجتماعية التي تسهل مواجهة التعبئة المذهبية التي تقودها السلطة، ولا سيما تيار المستقبل في الأوساط الشعبية السنية.
تبدو المعارضة الآن أقرب إلى الاستحقاق الذي يجعل هامش المناورة يضيق، وخصوصاً كلما اقتربنا من موعد انعقاد مؤتمر باريس ــ 3 الذي تريده السلطة رافعة لها للمرحلة المقبلة.