strong>رنا حايك
يلتقي أهالي بدنايل مع طروحات المعارضة. يتقاسمون هواجسها ويؤمنون بتوجهاتها، لكنهم يعتمدون نهج الانضواء تحت لوائها مع الحفاظ على مسافة صحية من الاستقلالية تؤكد انتماءً للمنطقة وللقرية قبل أن يكون انتماء لحزب أو تيار.
في ساحة الشهداء، تتميز «خيمة بدنايل» بوسائل الترفيه والكماليات المتوافرة فيها، وبالفعاليات التي تعقدها من لقاءات وجلسات حوارية وأغان وطنية تنطلق منها في جلسات السمر.
هم خمسة أفراد مداومين. أحدهم، علاء، مدير شركة، يقضي ليله في الخيمة ويتوجه صباحاً إلى عمله. لا يتغيب إلا في عطلة نهاية الأسبوع ليقصد البقاع حيث يدرّس في أحد المعاهد. أما صديقه وابن قريته وسيم، فلم يعد يستطيع إقفال مكتبه لتخليص المعاملات الجمركية بعد مرور 20 يوماً على بدء الاعتصام، فأصبح يقصده في النهار ويعود ليلاً إلى الخيمة، علماً أن ليل الساحة لا يهدأ ولا يتيح النوم، إذ تتوجه كل حوالى نصف ساعة مجموعة من المعتصمين إلى «بوابة فاطمة لرجم إبليس» (هكذا يسمّون الأسلاك التي تفصل بين الساحة والسرايا الحكومية) حاملين الطبل والزمر. ولا ضير من أن يصدح فجأة صوت أحد المعتصمين مع بزوغ الفجر صائحاً: عيتا، ليكررها المعتصمون بعده وتتردد الجملة ككرة الثلج من خيمة إلى أخرى.
في ساعات الذروة يصل عدد المعتصمين في الخيمة إلى حوالى خمسين شخصاً. وفي عطلة نهاية الأسبوع يأتي أبناء القرية لتمضية النهار معهم. يأخذون البطاطا والبصل من «خيمة المونة» ويشوونها ويأكلونها معاً.
استقلاليتهم لم تستفز محيطهم. فرفضهم للدعم المادي واللوجستي الذي عرضه عليهم أحد مسؤولي الانضباط لم يفسد للود قضية بينهم وبين الحزب. هم حريصون على التواصل المعنوي. ينتمي معظمهم لجمعيات ومؤسسات أهلية لكنهم ليسوا محازبين. من هنا جاءتهم الفكرة في خلق مساحة حيادية يقصدها «أهالي بدنايل وأصدقاؤهم» من جميع الطوائف للتعبير عن مساندتهم لتوجهات المعارضة من دون أن يكون دافعهم للمشاركة تكليفاً حزبياً. يعقدون جلسات سمر يعزفون فيها ويغنون الأغاني الوطنية وأغاني ألّفوها ووضعوا ألحانها سيتاح لهم قريباً تقديمها على المنبر كما وعدوا. وينظمون لقاءات مع مسؤولين سياسيين (سبق أن زارهم الوزير السابق ميشال سماحة والنائب السابق ناصر قنديل)، ومع مسؤولين شبابيين من الأحزاب المشاركة في الاعتصام لمناقشة توجهاتهم وثوابتهم والحرص على وصولها للقاعدة الشعبية المعتصمة.
يقول علاء: «لسنا هنا فقط لمعركة الحكومة، ولكن أيضاً للتعبير عن موقفنا من قانا 1996 ومن تموز 2006 ومن الدعم الأميركي للحكومة اللبنانية».
ويضيف علاء أن الصمود هو الأهم في المرحلة الحالية. ولدعم الصمود، كان لا بد من توفير عناصره التي يتقاسم المداومون الخمسة تكلفتها المادية على حسابهم الشخصي. فالكهرباء موصولة والتلفزيون موجود وجهاز الكمبيوتر المحمول حاضر. أحد أبناء القرية، وهو مهندس اتّصالات، جهّز اتصالاً لاسلكياً دائماً بالإنترنت بتكلفة تخطت مئتي دولار يتقاسم تسديدها المداومون في الخيمة وتتيح لهم دوام الاتصال مع أصدقائهم وأقربائهم المغتربين. فالـ«تشات» يكتسب معنى مختلفاً حين ينقل أخبار الاعتصام من مكانه مباشرة: «عم نحكيكن من الساحة. عم بتشتي. بس نحنا صامدين هون».
ريم حيدر، «أم العباية» كما أصبحوا يسمّونها بعدما تلقّت من السيد حسن نصر الله عباءته استجابةً لطلبها، هي بنت بدنايل وتواظب على الحضور إلى الخيمة. أمّا فرح فأقامت عيد ميلادها في الخيمة لأن «كل أصحابها وأهلها موجودون تحت».
الصمود والمواظبة هما حجر الأساس للوصول إلى الهدف. والتكافل بين أبناء القرية المستقلين يعزز الصمود بتوفير عناصره. يقول علاء: «كأننا دولة هون». فالقواعد واضحة: الأرجيلة ممنوعة داخل الخيمة. وسبل المعيشة متوافرة: الدفاية والمونة واللحف التي حملت من القرية. وحملات النظافة منتظمة يقوم بها الشباب الموجودون هناك باستمرار.
قد تكون خيمة بدنايل هي الأولى التي نصبت تحت عنوان الاستقلالية، لكن علاء لاحظ، بعد فترة، وجود بعض الخيم المستقلة ولو أن أصحابها غير مواظبين على الحضور المنتظم إليها.




التمايز دائماً

لا تشكّل النشاطات التي يقوم بها أهالي بدنايل في خيمتهم المستقلة في ساحة الشهداء سلوكاً مستجداً على أبناء هذه البلدة. فهم حين نصبوا خيمتهم واعتكفوا في ساحة الشهداء نقلوا معهم من قريتهم البقاعية البعيدة إحساساً دائماً بضرورة التمايز عن محيطهم. فقرية بدنايل تزخر بالفاعليات الثقاقية والفنية التي ينظمها «نادي بدنايل» الذي يموله أهالي القرية نفسها التي يردّد أهاليها أن «الأمي فيهم مجاز من الجامعة». هذا الالتزام بالتفوق وضرورة الاستقلالية يعود بجذوره إلى مجموعة من الامتيازات حملتها معها بعض العائلات كعائلة حيدر من أيام الحكم العثماني فتوارثتها لتتيح لها طموحاً بالتفوق العلمي والمادي.