نقولا ناصيف
تعوّل المرحلة الثانية من خطة المواجهة التي تقودها المعارضة ضد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة والغالبية النيابية سعياً إلى تقويض السلطة المركزية التي يشكلانها على بضعة معطيات، تعتقد المعارضة أنها تصب في مصلحتها:
أولها، خطوات متدرجة للتصعيد تنتهي في 25 كانون الثاني الجاري، وهو موعد انعقاد مؤتمر باريس 3 لمناقشة المشروع الاقتصادي والاجتماعي لحكومة السنيورة والحصول على دعم عربي ودولي لتعويم الاقتصاد اللبناني وإنعاشه. والخطوات المتدرجة هذه تعني إدارة الظهر لما يحصل في ساحتي رياض الصلح والشهداء منذ الأول من كانون الأول الفائت، والانتقال إلى ساحات أمامية ستكون محور المواجهة الأخيرة. وما يعنيه أركان المعارضة بذلك إعلان عصيان مدني شامل وخطير ينبغي، بالنسبة إلى هؤلاء، أن يؤول إلى إسقاط الحكومة مهما كلّف الأمر.
واستناداً إلى ما يقوله هؤلاء الأركان، فإن الاعتصامات المتنقلة من وزارة إلى أخرى ستتحوّل في أقل من أسبوعين إلى اعتصامات في كل المناطق اللبنانية دفعة واحدة، على نحو يقفل الأوتوسترادات والطرق العامة ومفترقاتها بغية شلّ الحياة العامة نهائياً. أما تعطيل حركتي المطار والمرفأ ففي الساعات الـ48 الأخيرة التي تسبق 25 كانون الثاني. وقد يكون المقصود في حسابات هؤلاء أيضاً منع رئيس الحكومة من السفر إلى باريس عبر المطار، إلا إذا اضطر لتمديد جولته العربية كي يوصل خاتمتها بأول أيام مؤتمر باريس 3.
ثانيها، أن تكليف الجيش حماية الاعتصامات يشكل مصدر ارتياح تام للمعارضة لأسباب تتصل بما سمعته من المؤسسة العسكرية، وما كانت قد سمعته أيضاً الحكومة وأفرقاء الغالبية النيابية في أوقات متفاوتة، وهو أن الجيش سيمنع أي اعتداء على المؤسسات والمقار الدستورية والرسمية وإن اقتضى الأمر قمع ذلك بالقوة، مع أن أركاناً بارزين في المعارضة أبلغوه أن ساحة اعتصامهم ومواجهتهم الحكومة هي الطرق العامة لا المؤسسات والمقار الدستورية والرسمية. كذلك لفت الجيش الطرفين ــــ في معرض تطمينه كل منهما إلى دوره المحايد حيال الاشتباك السياسي الذي يخوضانه كي لا يخطئا الحساب معه ــــ إلى أنه لن يقف عقبة دون حصول اعتصامات وتظاهرات، ولا يستطيع منع المواطنين من الاعتصام في الشارع والساحات والجادات، ويعرف في المقابل أن إقفال الطرق العامة ونصب خيم فيها على نحو ما تلوّح به المعارضة، ممنوعان. إلا أن حصولهما سيحملانه على دعوة المعنيين بالأمر إلى التخلي عن ذلك. وهي حدود فاعلية دوره في هذا النطاق ما دامت الاعتصامات لا تتخذ طابع تعريض الأمن للفوضى. لكن خشيته هي أن يجد نفسه أمام ألوف من المعتصمين يعطلون جدوى انتشاره، على نحو مشابه لما حصل في 8 آذار 2005، و 14 آذار 2005، و14 شباط 2006. وكذلك في ما يحصل منذ الأول من كانون الأول الماضي بنشر مئات من الخيم في ساحتي رياض الصلح والشهداء من دون أن يكون الجيش معنياً بإزالتها.
ثالثها، أن الجيش ليس في وارد الدخول في مواجهة مع أي طرف لبناني، ولن يفتح النار على أحد، اعتقاداً منه بأن ما يجري هو ثمرة خلاف سياسي انفجر في المؤسسات الدستورية وأخفق المسؤولون في استيعابه وحله داخلها، الأمر الذي يحتاج إلى حل سياسي لا إلى حل عسكري. وهو ما يبدو مصدر تباين ضمني في الرأي بين المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية التي ترى تصرّف المعارضة محاولات حثيثة لافتعال شغب بهدف تقويض السلطة المركزية وتعريض الوضع الداخلي للفوضى.
واستناداً إلى هذا التقويم حاول رئيس الحكومة، عشية اليوم الأول من الاعتصامات حول الوزارات، استكشاف رأي الجيش وإمكان حؤوله دون إقفال طرق وتعطيل أعمال الوزارات المعنية. كذلك اهتم مجلس الأمن المركزي في اجتماعه الاثنين الماضي بمعرفة استعداد الجيش لتسهيل عمل الوزارات والإدارات ومنع المعتصمين من تعطيلها. وواقع الأمر، في ضوء اعتصامي الثلاثاء والأربعاء حول وزارتي المال والطاقة، أن موظفيهما تمكنوا من الوصول إلى مكاتبهم خلال معابر وفّرها الجيش لتفادي تأثير الاعتصام على آلية العمل اليومية.
وبحسب ما يكشفه مصدر واسع الاطلاع في الغالبية النيابية، أبلغت المؤسسة العسكرية إلى المسؤولين أنها تأمل أن يصار إلى معالجة الأزمة القائمة سريعاً، وقبل 20 كانون الثاني، تجنّباً لتفلّت الاعتصامات في عدد كبير من المناطق اللبنانية، لئلا يقيّد ذلك قدرة الجيش في السيطرة على هذه الاعتصامات وأمنها بسبب توزّع قواه بين الجنوب والمحافظات الأخرى من جهة، وبسبب ضآلة عديده إذا وجد نفسه أمام عشرات ألوف من المعتصمين من شأنهم تشتيت تحرّك جنوده.
وتنطلق وجهة نظر الجيش هذه من استقوائه بالموقف الذي سبق أن اتخذه في 14 آذار 2005 عندما «عصى» أوامر حكومة الرئيس عمر كرامي وقرار المجلس الأعلى للدفاع بمنع التظاهر، وعندما تجاهل المراجعات المتكررة لرئيس جهاز الأمن والاستطلاع في الجيش السوري العميد رستم غزالة لمنع التظاهر، إلا أنه ضَمَنَ حماية المتظاهرين. وتأخذ وجهة نظره هذه في الاعتبار التمييز بين اعتداءات على مقار شرعية ودستورية، وحق التعبير عن الرأي. وهو ما أكده تكراراً رئيس الحكومة لقيادة الجيش.
رابعها، أن الجيش هو المكلف الوقوف في الصف الأمامي في مواجهة المعتصمين كي يحول دون حصول احتكاك بين هؤلاء وقوى الأمن، نظراً إلى الموقع الذي اتخذته هذه الأخيرة، عمداً على أنها قبضة الحكومة والغالبية النيابية التي تدعمها، أو لجهة سعي أفرقاء الغالبية إلى توريطها في سجال سياسي يرتبط أحياناً بمهماتها. فإذا بها، تبعاً لذلك كله، على طرف نقيض من قوى المعارضة، وخصوصاً «حزب الله»، الأمر الذي بيّنه حادث الرمل العالي في آب المنصرم على أثر الحرب الإسرائيلية على لبنان، وكذلك ما كانت أشاعته المعارضة عن دور سلبي اتخذته قوى الأمن بالوقوف مع أنصار «تيار المستقبل» في معالجة حوادث الشغب في محلة قصقص في الأسبوع الأول من الشهر المنصرم.
ولا يعدو هذا الموقف إلا جزءاً من المشكلة الناشبة أساساً بين المعارضة ووزارة الداخلية، خلافاً للعلاقة التي تجمع «حزب الله» بوزارة الدفاع، وخصوصاً قائد الجيش العماد ميشال سليمان. إذ بينما يتبنى الأخير موقف الحياد في النزاع القائم بين الحكومة والمعارضة، فإن لوزارة الداخلية وقوى الأمن موقعاً مختلفاً. وفي حصيلة الحسابات السياسية تقتصر علاقة الجيش بقوى الأمن، حيال ضبط الأمن والإستقرار ومنع التعدّيات، على التنسيق ليس إلا.
والأصح، في حمأة معركة سياسية طاحنة بين الغالبية والمعارضة، يعتبر الجيش أنه خارج مسارها ونتائجها.