جان عزيز
لا تبدو الصورة اللبنانية أكثر تفاؤلا من طهران، أقله في أوساط الخبراء غير الرسميين، والمتخصصين في الأوضاع الإيرانية وما تؤثر فيه أو تتأثر به.
«مضيعة للوقت محاولة معالجة الأزمة اللبنانية الراهنة، بالسبل المعتمدة حتى الآن»، يقول أحد رؤساء مراكز الأبحاث في طهران. قبل أن يشرح:»الحل اللبناني يبدأ بتذليل المشكلة القائمة بين إيران والسعودية»... لتبدأ القصة الدوامة. فما بين طهران والرياض متاهة من الأسباب والخلفيات والنتائج والوقائع، فيه التاريخي والعرقي والمذهبي والجيوستراتيجي والسياسي – الاقتصادي، وفيه بين ثنايا ذلك كله، حل الأزمة اللبنانية.
يقول بعض الخبراء في طهران ان جوهر المشكلة بين البلدين هو أن إيران تملك نظرة إقليمية إلى ذاتها، وبالتالي مشروعاً إيرانياً للمنطقة، فيما السعودية لا تملك ذلك. لماذا هذا الفارق؟ قد يكون التاريخ المؤلّف هنا، والزهو الوطني والقومي، وقد يكون الفكر الديني المعمل للعقل المفتوح على الاجتهاد، والمقاربة الدائمة لمستجدات الحياة على ضوء عاملي الزمان والمكان، وقد يكون هذا الحراك الكبير المبتدئ قبل أكثر من ربع قرن، والمستمر في شكل لا يهدأ، بين محافظ واصلاحي وليبرالي وعلماني.. .وقد يكون مجموع هذه كلها وغيرها من الأسباب. لكن الأكيد أن إيران تملك اليوم رؤية لنفسها على أنها قوة إقليمية، وتملك بالتالي تصورا لمعظم معالم هذا الإقليم. وبناء على هذا الواقع باتت لاعبا يستكمل عناصر قوته الذاتية الثلاث: العسكرية والاقتصادية والنووية، ويسعى الى توسيع ملعبه ليشمل 5 ميادين: أفغانستان، العراق، سوريا، لبنان وفلسطين.
ويعتقد الخبراء أنفسهم أن الأزمة اللبنانية الراهنة منبثقة من إحساس سعودي بأن بيروت هي العاصمة الوحيدة التي يمكن للرياض أن توازن فيها طهران. أو على الأقل فان هذه الأزمة هي النتاج الطبيعي لحملة التحريض العنيف الذي تشنه السعودية على إيران. ويسترسل هؤلاء في سرد الأمثلة الإعلامية على ذلك، مما يستحضر 14 قرنا كاملة. لكن بمعزل عن الصراع السعودي - الإيراني، كيف ينظر النظام الإيراني إلى لبنان؟ يؤكد أحد الخبراء أنه طيلة أعوام سمع من أعلى المراجع الإيرانية كلاما بالغ الايجابية حيال النظام السياسي في لبنان، وحيال صيغته التوافقية الميثاقية. كما سمع كلاماً صريحاً مؤيداً لاتفاق الطائف ومعادلة السلطة المنبثقة منه. لذلك يعتقد الخبير نفسه أن إيران غير معنية إطلاقاً بالمستوى المتعلق بموازين القوى الداخلية للجماعات اللبنانية، والتطلعات المعلنة أو المضمرة لبعضها، وصيغ مشاركتها في النظام اللبناني. ويرجح بأن إيران لا تنظر إلى وجود «حزب الله» وسلاحه من هذه الناحية.
غير أن هذه الملاحظة لا تلبث أن تعجز عن تطمين الواقع اللبناني في شكل كامل. إذ يسارع الخبراء إلى التأكيد أن ما سبق لا يعني إطلاقاً أن طهران لا تملك قراءة إيرانية لذلك السلاح. ففي معزل عن آليات استخدامه وأطره، يميل أحد الخبراء إلى الاعتقاد بأن النظام الإيراني يرى علاقة وجودية مباشرة بين سلاح «حزب الله» في جنوب لبنان، وبين وجود دولة إسرائيل. هل يعني ذلك أن بقاء سلاح «حزب الله» مرتبط بهدف إزالة إسرائيل، كما تطلع محمود أحمدي نجاد مرارا؟ يجيب الخبير متأنيا في اختيار كلماته: «أعتقد أن لهذا السلاح علاقة بالتصور الإيراني للسلام في الشرق الأوسط، ولا علاقة له بالوضع اللبناني الداخلي». وما هو تصور طهران للسلام في المنطقة؟ الهدف الواضح والأكيد هو إيجاد الحل العادل والنهائي للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني في كل أماكن شتاته، إضافة الى إنهاء احتلال الأراضي الأخرى. لكن تحت هذا العنوان العمومي، كيف تتبلور التصورات الايرانية تفصيلا؟ يشير الخبير نفسه إلى أن الرئيس الإيراني السابق، محمد خاتمي، أعلن ذات مرة قبل أعوام، أنه إذا اعترف الفلسطينيون بدولة إسرائيل، فان إيران تحترم قرارهم، من دون أن تكون هي نفسها ملزمة بها الاعتراف. وكان واضحا أن موقف خاتمي هذا، يؤشر إلى قبوله مبدأ قيام دولتين جارتين سيدتين: فلسطين وإسرائيل. إلا أن هذه القراءة ليست بالتأكيد موضع إجماع في طهران اليوم. فالمعروف أن مرشد الثورة، علي خامنئي، من القائلين بقيام دولة واحدة بقوميتين، من البحر الى النهر. على أن تسبق ذلك عودة جميع فلسطينيي الخارج إلى أرضهم، ومن ثم إجراء استفتاء حول شكل الدولة العتيدة، وإجراء انتخابات حرة مباشرة لاختيار سلطاتها. أي بلغة أخرى، يتطلع أصحاب هذا الرأي إلى قلب المعادلة الديموغرافية داخل دولة «إسرائيل- فلسطين» الموحدة، تمهيدا لقلب موازين السلطة فيها. بحيث يتحول اليهود أقلية والمسلمون أكثرية، فتنعكس صورة الدولة، «تماما كما حصل في جنوب أفريقيا، بعد زوال نظام الأبارتهيد». ويعترف الخبير نفسه بأن الرأي السائد في طهران اليوم أقرب إلى موقف خاتمي. ويلاحظ أن الناطق باسم الخارجية الإيرانية كرر قبل مدة موقفا مماثلا لموقف خاتمي السابق في موضوع الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل، فتلقى ملاحظات رسمية كانت كافية لعدم الوقوع في تلك «الهفوة» مجددا.
ماذا إذا طوينا أطراف الكلام؟ سلاح «حزب الله» مرتبط بالتصور الإيراني للسلام في المنطقة. وهذا التصور يعني قيام دولة واحدة فلسطينية، يكون اليهود فيها أقلية محكومة، والفلسطينيون أكثرية حاكمة... تصير الحلقة أكثر من مغلقة لبنانيا، ويصير موضوع السلاح أكثر إقلاقا... «في كل حال، الأكيد أن إيران خاتمي تصلح أكثر لخدمة المصالح الإيرانية، كما مصالح أصدقاء طهران، من إيران أحمدي نجاد»، يلاحظ الخبير نفسه، محاولا تخفيف الصورة المرتسمة.
لكن يظل هذا رأي الخبراء غير الرسميين في طهران، فماذا عن رأي الرسميين فيها؟