أنسي الحاج
الإيمان لا يكفي. إيمانكَ يَحميك، وحمايتكَ تعزلك عن آلام الآخرين.
والإلحاد لا يكفي. للسبّب ذاته.
هناك شيء غيرهما، غير هذا المنطلق الذي بات أشبه، في حدّيه، بالحلقة المُفْرغَة.
لعلّه الوعي.
(اكتشاف عديم الدهشة، ككثير من الحقائق التي تستدعي التواضع).
وعي في حدّة الشمس، وقحٌ كبراءة تعيش ذاتها بلا وعي.
وعيٌ يعطّل فاعليّة العدوان. يشلّ الطغيان. يتفّه حيويّة الشرّ.
مناعة تنبعث من مجرد تسليط الوعي. توجيهه كالأشعّة، كالمطر الشاطف. وعي، محضُ وجوده وإعلان وجوده سقوط للجريمة. الجريمة تنمو في رطوبة العتم وتيبس وتهرّ في انقشاع الظهيرة.
لا يحتاج الحقّ إلى رشاشات، بل إلى ضمائر يشرح صدرها الصدق.
ولا إلى أبطال سلطة ولا إلى دُهاة، بل إلى متواضعين أبطال وإلى أذكياء مترفّعين وإلى عديمي الادّعاء أو على الأقل إلى قليلي الادّعاء. الغرور انتشر إلى حدّ باتت معه قلّة الادّعاء فضيلة أكثر انطلاباً من المعرفة.
لا تحتاج البلاد إلى عيون تَقْدَح الشّرَر، بل إلى عيون تشعّ بالطيبة. الجميع قبضايات. لكن الحاجة إلى وُدَعاء يقاسمون الشعب المقهور الفقير أوضاعه ولقمة موته.



نخطئ لأننا نخطئ أم لأن لا وجود للحقيقة؟
لا هذا ولا ذاك. نخطئ لأننا نعرف أننا نخطئ بحقّ من نؤذيهم.
بين فريقيْ صَلْب لبنان هل من يَعرف أنه يخطئ؟



... وهذا العنف، هذا الزّبَد على الشفاه، على النصال، على شفا القلوب.
هذه الشهوة للقتل.
شهوة بالكاد مكبوتة.
عنف لا يعرقله غير الكلام وبقيّة عادات سلميّة ومسحة تمدّن. وعدم توافر السلاح للجميع. لا شك أن هؤلاء الساسة يثأرون في مكان ما من أحدٍ ما على أمل «الحمّام الكامل». غيظ يلاكم الفراغ، يُفرغ نفسه في التجريد بانتظار غد دموي أفضل.



لا فرق بين العنف السياسي وعنف العصابات الإجرامية إلّا بالآرمة. الدموي هنا توأم الدموي هناك. ولا مبالغة في القول إن شرّ العصابات أخفّ من شرّ السياسيّين والحكّام لأنه عديم «المُثُل العليا»، وضحاياه أقل عدداً وكلْفته العامة تكاد لا تُذْكر، وزعماؤه يقودون عصابة لا شعباً.



المحلّ الوحيد الذي لا يَحُكّ فيه العنفُ العنفَ هو الخَلْق الأدبي والفنّي. عنفه يلقي في النفس سلاماً لا سيفاً، وحيث الصواعق إشراقات والرعود وعود والبروق أشواق والعواصف مطاهر والنهايات ولادات جديدة. وإذا ألقى عنف الشعر والموسيقى في النفس عنفاً فهو صَرْعَة الاكتشاف وصَرْع الرؤيا. من نوع الحبّ الهائل.
أيّ حبّ في العنف السياسي والاجتماعي؟ من الحرب إلى الانقلاب إلى الإرهاب، كلّها اغتصاب. واغتصاب رداً على الاغتصاب. شيء يهجم من الخارج على الداخل والخارج. كل أنواع العنف السياسي والاجتماعي فيها شيء من هولاكو وروبسبيير وهتلر. رعب وصراخ وطَحْن عظام.
عنف لا يشرب غير نخب السلطة والبغض.



... ولو أسفر أحياناً عن «إصلاح».
دوماً يَرْفع العنف لواء الحقّ. ارتُكبت باسم العدالة مجازر العصور. لكن الذي ارتكبها هل هو حقّاً نبيّ متعطّش إلى البِرّ أم سفّاح يرى الحروف ولا يرى الجثث؟ السفّاح حَرْفيّ، يقدّس الألفاظ، تجريدي، لا يشمّ رائحة الدم. إنه نظيف أبيض لأنه فوق الحياة اليوميّة، فوق العيون اليوميّة، فوق الآهات والقشعريرات اليوميّة. إنه يطوف كالخاطرة، إذا جودل جادل، لكنْ حذار الشكوى أمامه من وَجَع يوميّ. إنه فوق التفاصيل والأرقام. إنه يبحث عن الحق والعدل. الهَدَف أعظم من المشاة، بل من الهدّاف نفسه. والهدف هو دائماً إلى الأمام. أمام كل هدف هدف. والبَشَر مجرد أمواج تقود السفينة إلى الهدف.




هل تعرف من هو الطاغية؟ الطاغية هو كلّ واحد منّا حين نظنّ أن الآخرين لا «يروننا».



هل تعرف من هو العدوانيّ؟ العدوانيّ هو الذي يتوهّم أن الآخر عدوانيّ لتبرير العدوانيّة ضدّه.




إلى آخره.
ولا يكفي، كفعلِ محبّة، أن نكره الكارهين.
وهذه أيضاً ملاحظة موجّهة إلى الذات.