جوزف سماحة
البيت الأبيض محاصر. محاصر سياسياً. الاستراتيجية الجديدة في العراق زادت من حدّة الإطباق على جورج بوش. الرأي العام الأميركي غاضب. الديموقراطيون يزدادون جرأة. جمهوريون يتبرّأون. المناخ ثقيل. الشك سائد ومعه قدر كبير من التشاؤم.
الحجّة المثلى التي وجدها المدافعون عن الاحتلال هي أن الوضع الصعب الحالي سيتحوّل إلى كارثة في حال الاعتراف بالفشل وبناء سياسة على هذا الأساس. لسان حالهم يقول إن مداراة الفشل الأصغر هي البديل الوحيد عن الفشل الأكبر. يقدمون تصوّراً رؤيوياً لما سيكون عليه الوضعان العراقي والإقليمي إذا غلب منطق الانكفاء على ما عداه: ستندلع حرب أهلية واسعة ودموية تفيض عن الحدود العراقية وتحدث انفجارات في بلدان الجوار، سيستدرج التفتت العراقي قوى كثيرة تدخل في مواجهات بعضها مع بعض، تركيا تراقب وضع الشمال، السعودية والأردن تراقبان وضع السنّة، إيران عينها على الشيعة. ستنشأ ملاجئ للإرهاب. ستحدث أزمة طاقة. ستشتد الهجمات على العواصم الغربية. ستفقد واشنطن صدقيّتها. إلخ...
يصاحب الانتقال إلى هذا الخط الدفاعي تخفيف الرطانة الديموقراطية والرهان على «المنارة» التي ستشعّ على الشرق الأوسط الكبير. بات الكلام مقتصراً على «عراق يحمي نفسه ويعيل نفسه ويدافع عن نفسه»، وعلى أن عدم تحقيق ذلك هو التدهور نحو قعر أدنى من الحالي وهذا ما لا يمكن التسامح معه.
يستعيد المدافعون عن الخطة الجديدة، لمصلحتهم، عبارة الرئيس حسني مبارك «الحرب على العراق ستفتح أبواب جهنم» لتصبح «الانسحاب من العراق سيفتح أبواب جهنم». ويتحوّل الاحتلال، بهذا المعنى، إلى قفل يمنع اللهيب من الانتشار، كما يتحوّل بوش إلى إطفائي يعالج مخاطر النيران التي أشعلها.
يجب الاعتراف بأن الحجّة لا تخلو من رجاحة. نعم، الأكراد جاهزون لإشعال فتيل كركوك وربما البصرة. والشيعة والسنّة مستعدّون لمنازلة فاصلة في بغداد. وعمليات التطهير المتبادل يمكنها أن تتّسع ومعها المجازر اليومية. والتدخلات الإقليمية الحاصلة أصلاً ستتحرّر تماماً من أي قيد وتزداد تأثيراً. ليس العراق في وضعيّة احتلال ـــ مقاومة، أو غزو. حركة تحرّر وطني. المسألة أكثر تعقيداً من ذلك. وبما أن المقارنة بفيتنام حاضرة تجدر الملاحظة أن الفيتكونغ كانوا، في الوقت نفسه، يقاومون ويخوضون حرباً أهلية ضد السند الداخلي للاحتلال، لكنهم كانوا يفعلون ذلك في سياق امتلاكهم لبرنامج وطني توحيدي. العراق، بأطيافه، بعيد عن ذلك.
إن من يتابع أطروحات المدافعين عن خطة بوش الجديدة، من الأميركيين وغير الأميركيين، يتناسون عمداً البعد الآخر لأي حل بديل. وعندما يخاطب بوش الديموقراطيين مطالباً إياهم بتحمّل مسؤولية تقديم وجهة متكاملة أخرى يتناسى، هو الآخر، أن معالم هذه الوجهة موجودة في تقرير بيكر ـــ هاملتون. إن ما يتم تناسيه في الدعوات المرفوعة إلى الانسحاب من العراق إو إعادة صياغة العلاقة الأميركية به، هو امتلاك هذه الدعوات لبعد إقليمي يسندها ويدعم منطقها. لا أحد يقول: لننسحب ونقطة على السطر.
المطالبون بإعادة النظر يركزون على البيئة الإقليمية المحيطة بالعراق ويملكون ما يقترحونه في ما يخص إيران وسوريا والمعتدلين العرب وإسرائيل والفلسطينيين ولبنان. ولدى هؤلاء أجوبة تخص الملفات العالقة من النووي الإيراني إلى مصير الأراضي العربية المحتلة إلى النظام الأمني الإقليمي المرجوّ إلى إشراك قوى دولية أخرى في التسويات الإجمالية التي تطال العراق وغير العراق.
فتقرير بيكر ـــ هاملتون، فضلاً عن أنه لا يدعو إلى إخلاء العراق من أي وجود للاحتلال، وفضلاً عن أنه يدافع عن الأرجحية الأميركية اللاحقة في العراق سياسياً واقتصادياً وأمنياً، فإنه ينظر في أحوال الإقليم ويقترح تسويات انطلاقاً من العراق وغيره بدل جعل البلد المحتل منصّة انطلاق لتصفية حسابات أخرى تتجاوزه.
ونلاحظ أن «المبشّرين» بكارثة ما بعد الانسحاب يسقطون تماماً هذا الوجه الآخر لأي بديل، ويتجاهلون الدور الإيجابي الذي تستطيع بيئة إقليمية مستقرّة أن تلعبه، ولا يعيرون اهتماماً لمعنى منع أي نزاع داخلي عراقي من أن تكون له وظيفة خارج الحدود. إن هؤلاء المبشّرين يفعلون العكس تماماً. فهم يصرّون على أن نجاحهم في تأمين الاستقرار في العراق له وظيفة مباشرة في ضرب استقرار عدد من الدول المجاورة: في إيران، وسوريا، وفي فلسطين عبر تشجيع «فتح» ضد «حماس»، وفي لبنان عبر دعم حكومة فؤاد السنيورة في وجه المعارضة.
إن نقطة الضعف في مشروعهم هي وضعهم السعي نحو الانتصار في العراق في سياق إقليمي مثير للتوتر وهادف إلى تغليب قوى على قوى وحماية التوسّعية الإسرائيلية وإحاطتها بمواجهات عربية ـــ عربية. إنهم يضيفون أزمات إلى الأزمة ويعاملون العراق كساحة بدل أن يفتحوا التسوية في العراق على انفراجات تطال بؤر النزاعات في المنطقة.
يرفضون تأمين أي شرط إقليمي للتهدئة في العراق. ويعجزون في الوقت نفسه عن إسناد مشروعهم إلى كتلة شعبية وازنة: إنهم مع الأكراد ولكنهم مع الحدود التي ترسمها تركيا، وهم مع السنّة شرط انحيازهم إلى الاحتلال، ومع الشيعة شرط عدائهم لإيران، وهم مع «المعتدلين العرب» شرط التخلي عن الحد الأدنى من حقوق الفلسطينيين، ومع محمود عباس شرط مواجهة «حماس»، إلخ...
يمكننا أن نلاحظ أن الشروط كلها تسقط في العلاقة مع إسرائيل وحدها إلى حد أن كوندوليزا رايس مستعدّة للبحث في مواجهة التطرّف في المنطقة مع... أفيغدور ليبرمان!
إن من يعتمد ليبرمان واجهة لمكافحة التطرّف يستطيع أن يبرّر أي سياسة في العراق ويصبح صاحب مصلحة في عدم الاهتمام بتسويات إقليمية تساعد على محاصرة النار في بغداد.