عمّان ـ نقولا ناصيف
يقف الأردن عند تخوم جغرافية وسياسية لمواجهتين عربيتين: أولى في لبنان تحت وطأة تجاذب سعودي ــــ مصري تشارك فيه عمّان على أنها طرف وجهاً لوجه مع التحالف السوري ــــ الإيراني، وأخرى في العراق تحت وطأة تجاذب مشابه انخرط فيه الأفرقاء هؤلاء جميعاً، إلى واشنطن اللاعب الرئيسي في هذا البلد المنهك عسكرياً وأمنياً وسياسياً. على خط التماس الساخن هذا، بين لبنان والعراق، للعاصمة الأردنية مقاربة حيال ما يجري في هذين البلدين. وهذا ما تعبّر عنه مصادر دبلوماسية عربية بارزة في عمّان، على صلة مباشرة بممثلي أطراف التجاذب هذا. وهي ترسم ملامح الموقف الأردني من وقائع ما يحصل:
1 ــــ ليس ثمة حوار أردني ــــ سوري إلا في نطاق محدود يقتصر على العلاقات الثنائية بين البلدين. والمقصود بذلك استمرار أعمال اللجان الفنية والتقنية بمعزل عن حجم الخلاف على مشكلتي العراق ولبنان. تالياً، تفصل كل من عمّان ودمشق بين تعاونهما الثنائي الوثيق الصلة بمصالح كل من البلدين حيال الآخر، وبين التباعد المعلن في السياسة الخارجية بإزاء جاريهما المضطربين. فاللجنة الثنائية المعنية بالمياه اجتمعت في عمّان الجمعة الفائت، وفي أيلول المنصرم زار رئيس الوزراء الأردني على رأس وفد من الوزراء دمشق وناقشوا ونظراءهم تعاون البلدين، وتنتظر العاصمة الأردنية قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية السورية في منتصف السنة الجارية رئيس الوزراء السوري على رأس وفد وزاري في نطاق تبادل دوري للزيارات (مرتين في السنة). لكن كلاًّ من البلدين يقف على طرف نقيض من السياسة الخارجية للآخر: يرى الأردنيون أن دمشق ذهبت بعيداً في تحالفها مع إيران، وأضحت عامل عدم استقرار في العراق ولبنان، إلى كونها تساهم في رفع وتيرة التشنج المذهبي في المنطفة بفعل هذا التحالف. ويرى السوريون أن الأردنيين قد غالوا بدورهم في التزام المصالح الأميركية التي تصبّ في نهاية المطاف برأيهم في مصلحة معاهدة السلام مع إسرائيل.
بيد أن السوريين لا يترددون في تسجيل مآخذهم على ما يرونه مبالغة إضافية تنساق إليها الرياض والقاهرة وعمّان في إبراز مخاوفها من تصاعد النبرة المذهبية على مستوى محاور المنطقة انطلاقاً من العراق ولبنان. وبحسب ما سمعته المصادر الدبلوماسية العربية عن ذرائع دمشق، فإن هذه تقلل من جدية تلك المخاوف وفاعليتها، وتدرج ــــ كدولة ذات غالبية سنية على رأسها نظام علماني ــــ تحالفها مع إيران الشيعية لإظهار المشكلة في المنطقة على أنها سياسية أكثر منها مذهبية، وتتصل خصوصاً بمواجهة الضغوط والتدخّل الأميركي في المنطقة.
2 ــــ لا يبدو الأردن معنياً مباشرة بالوضع اللبناني إلا بمقدار حرصه على توافق اللبنانين ووحدتهم وعدم انهيار استقرار هذا البلد، وتجنيبه فتنة مذهبية سنية ــــ شيعية. بل يريد الأردن من مقاربته هذه الاكتفاء بدور «المصلح» بين الأفرقاء اللبنانيين للتوصّل إلى حل سياسي إذا أتيح له الأمر، لكن من غير أن يتورّط في النزاع الناشب بينهما في السلطة اللبنانية وخارجها، ومن غير أن يظهر أيضاً انحيازه إلى فريق دون آخر أو تبنّي وجهة نظره. وتنطلق عمّان في تحديد موقفها المحايد هذا من علاقات سياسية تجمعها بأكثر من طرف لبناني في المعسكرين المتخاصمين، وإن كانت لا تخفي علاقات تاريخية وتقليدية عميقة الأثر ترجّح ضمناً كفة بعض أفرقاء قوى 14 آذار، وخصوصاً آل الحريري (لأسباب سياسية أو تتصل بعامل مصاهرة) ورئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط. كذلك فإن للنائب سعد الحريري وشقيقه بهاء استثمارات مالية ومشاريع إنمائية ضخمة في الأردن، وخصوصاً في عمّان والعقبة. على أنه ليس للعاصمة الأردنية نفوذ في لبنان كالذي لمصر أو بدرجة أوسع نطاقاً للسعودية. أضف الموقف الأردني الرسمي الشاجب اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري، وقد جمعته بالملك حسين ثم بخليفته الملك عبد الله الثاني علاقات وطيدة، مما يدفع بالمملكة إلى تبنٍّ غير مشروط لإنشاء المحكمة الدولية في اغتيال الحريري الأب.
3 ــــ ما يصحّ على الأردن، في رأي المصادر الدبلوماسية العربية، هو نفسه تقريباً ينطبق على مصر التي تقصر بدورها علاقاتها مع سوريا على طابع ثنائي بحت. في كانون الأول الفائت زار رئيس الوزراء السوري على رأس وفد وزاري القاهرة في إطار أعمال لجان فنية بين البلدين، واجتمع بالرئيس حسني مبارك، من غير أن يضيف ذلك تحوّلاً مهماً ورئيسياً على خط الحوار على مستوى الزعماء بين الرئيس بشار الأسد وكل من عمّان والقاهرة والرياض التي تبدو، أكثر من العاصمتين الأخريين، معنية بالوضع اللبناني والإشراف على التفاصيل الأدق في مسار النزاع اللبناني ــ اللبناني الحالي. ومن غير أن تبدي هاتان العاصمتان في الظاهر اهتماماً أقل، فإن السعودية ــ ولأسباب شتى (منها علاقات تاريخية تعود إلى أربعينيات القرن الماضي بالسنّة اللبنانيين ولا سيما منهم البيروتيين، أضحت ذروة مع الحريري الأب، وكونها المرجعية الدينية للسنة اللبنانيين ناهيك بتمويلها السخي وغير المنقطع لخطط مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية على امتداد السنوات الأخيرة) ــــ تبدو المعنية المباشرة بالحؤول دون انفجار فتنة سنية ــــ شيعية. وهي تالياً لا تقف عند تخوم خلافها مع كل من النفوذين الإيراني والسوري في العراق ولبنان فحسب، بل تحاول مواجهة الحجة التي تقابلها بها دمشق، وهي أن لهذه حلفاء وأصدقاء في لبنان بمقدار ما للسعودية حلفاء وأصدقاء، وأن سوريا ترى أن مصالحها وتأثيرها في لبنان أسبق.
بذلك، تعكس المصادر الدبلوماسية العربية طبيعة المواجهة القائمة في لبنان، الآن، بأنها صورة متطابقة لخلاف ناشب بين المحور السعودي ــــ المصري ــــ الأردني والمحور الإيراني ــ السوري. ويبدو أن دمشق، تضيف المصادر نفسها، تجد في الضغوط السعودية عليها محاولة لإحلال نفوذ المملكة محل النفوذ السوري الذي خرج من لبنان نهائياً عام 2005 بآلتيه السياسية والعسكرية تاركاً وراءه حلفاء أقوياء قادرين على العرقلة. وليست الزيارة التي قام بها وفد «حزب الله» للمملكة العربية السعودية في 26 كانون الأول المنصرم إلا ترجمة لحجم المخاوف من فتنة سنية ــــ شيعية، تقول المصادر الدبلوماسية العربية في عمّان إنها أوجبت على الرياض اتخاذ موقفين متلازمين: أولهما تنسيق غير معلن ــــ وهو ليس الأول ــــ عشية زيارة وفد «حزب الله»، بين رئيس الاستخبارات السعودية الأمير مقرن بن عبد العزيز ووزير الاستخبارات والأمن الإيراني غلام حسين محسني أجدئي في دولة ثالثة، ذُكِرَ أنها عربية. وثانيهما حض وفد «حزب الله» على المساعدة للحؤول دون تصعيد التوتر المذهبي في لبنان وإبراز الحاجة إلى اتفاق اللبنانيين، ولاسيما منهم المسلمين، في ما بينهم. ورمى هذان الهدفان إلى الإقرار بفاعلية نفوذ إيران في لبنان وتأثيره على «حزب الله» بديلاً من اتصال تقليدي ومفترض بدمشق التي تواجه قطيعة حادة مع المملكة، كما رميا إلى التسليم بالحاجة إلى تعاون الحزب في هذا الأمر. طبقاً لذلك، رحبت إيران بزيارة الوفد وقد أُحيطت علماً بها سلفاً، واعتبرتها السعودية مفتاح تهدئة ضرورية لتحقيق الاستقرار في لبنان من خلال الدور الفاعل للحزب في المعادلة الوطنية وتوازناتها. أما على الجانب الآخر من الأردن، والموقف من سوريا وما يجري في العراق، فللمصادر الدبلوماسية العربية في عمّان قراءة إضافية.