جوزف سماحة
بعد ست سنوات في الإدارة مستشارةً للأمن القومي ثم وزيرة خارجية، جاءت كوندوليزا رايس إلى المنطقة لـ«تستمع». جاءت تدافع عن استراتيجية جديدة أعلنها رئيسها جورج بوش في العراق، وتدافع عن وجهة محدّدة في لبنان، لكنها، في ما يخص فلسطين، جاءت خالية الوفاض من خطة أو مشروع.
الرئيس العراقي جلال الطالباني في دمشق في أول زيارة من نوعها منذ عقود. كلامه عن سوريا حار جداً.
رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني في السعودية.
مسؤولون أميركيون يوضحون ما التبس في خطاب بوش عن احتمال توسيع الحرب. يتبيّن أن الاتجاه هو إلى التصعيد الذي قد يشمل الأرض الوطنية الإيرانية. ولكن، في غضون ذلك، تزداد التحرّشات الأميركية بإيرانيين في العراق موجودين بصفة رسمية.
هذه بعض الملامح لمشهد إقليمي يرتسم في المرحلة اللاحقة على خطاب بوش. رايس تتحرّك لحشد «المعتدلين العرب» من دون أن تقدم لهم شيئاً على المسار الفلسطيني، وتحاول بيعهم تعميق الحرب في العراق وتوسيعها، فيما مسؤولون عراقيون وإقليميون يعبّرون عن تطلعات مخالفة.
لا ضرورة، ربما، لتكرار أن الاستراتيجية التي أعلنها بوش معزولة في الداخل الأميركي. الرأي الذي يخالفها يرى أن القاعدة العراقية لتطبيقها ضيقة جداً، وأنه من غير الجائز إسناد سياسة، ولو مأزومة، لدولة بحجم الولايات المتحدة إلى سلطة عراقية قد لا تستطيع تلبية حاجاتها. فكيف إذا كان المطلوب من المالكي اجتراح معجزات من نوع: تجريد ميليشيات حليفة ومعادية من السلاح، تأمين بغداد لفترة مديدة، تقاسم الثروة، تعديل الدستور، توسيع المشاركة السياسية، إعادة النظر باجتثاث البعث، بناء مؤسسات أمنية وطنية، التزام إنجازات مرحلية محدّدة، حل مشكلات اقتصادية واجتماعية، أخذ مسافة عن البيئة الطائفية التي أوصلته إلى حيث هو، إلخ... إنها مطالب لا يقدر عليها هذا إذا كان يريد تنفيذها أصلاً. أضف إلى ذلك أن الرجل المكلف هذه المهمات من جانب واشنطن هو، بالضبط، الرجل الذي انتقده مستشار الأمن القومي الأميركي ستيفن هادلي قبل أسابيع، متّهماً إياه بأنه إما لا يعرف، وهذه مصيبة، وإما يعرف ولا يستطيع أو يرغب والمصيبة أعظم!
النقد الأميركي الداخلي لخطة بوش يتركّز، إذاً، على هذه النقطة، مستفيداً من أن الإدارة قدّمت استراتيجيتها الجديدة كأنها تلبية لطلب المالكي وربطت نجاحها بتجاوبه. وتربط «المعارضة» الأميركية بين هذا النقد للوجه الداخلي للاستراتيجية ونقد آخر يتناول جانبها الإقليمي حيث يقدم بوش على التصعيد فيما أن الحوار مطلوب.
لنعد إلى جلسة الاستماع التي تعرّضت لها رايس قبل قدومها إلى المنطقة أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ.
رئيس اللجنة جوزف بيدن (ديموقراطي) انتقد تجاهل بوش النصيحة التي تلقّاها بضرورة «الحصول على دعم من تركيا وسوريا وإيران والسعودية والجيران كلهم». أضاف أنه إذا كان العراق يعيش «حرباً أهلية»، فإن التوافق الإقليمي يمكنه، في أقل الأحوال، منع امتداد هذه الحرب إلى الجوار.
الجمهوري الأول في اللجنة ريتشارد لوغار لا يرى في إيران وسوريا سوى دولتين عدوّتين لأميركا. لكنه، مع ذلك، ينصح بـ«دبلوماسية أكثر شمولاً» و«بتوسيع الخيارات في المحيط العراقي مع ما يعنيه ذلك من ضرورة التفاوض مع سوريا وإيران». يعلن أن دمشق وطهران تعملان ضد المصالح الأميركية ولا يريد تغيير الموقف منهما إلا أنه لا يرضى «التضحية بالحوار خوفاً من آثار إدراج دول غير صديقة فيه».
كريستوفر دود (ديموقراطي) يرى أن «السياسة والدبلوماسية تمثلان الأمل الوحيد في لجم الاتجاه نحو الفوضى». يتابع أن على واشنطن الحوار مع إيران وسوريا، ليس لأنهما صديقتان، بل لمجرد أنهما تستطيعان أداء دور في الاستقرار.
تشاك هاغل (جمهوري) يحذّر من خطورة توسيع الحرب، مستعيداً مثال كمبوديا وينادي بـ«حوار إقليمي يشمل سوريا وإيران». كذلك يفعل الديموقراطي جون كيري وغيره من الذين تحدّثوا في تلك الجلسة وطالبوا مباشرة أو مداورة باعتماد هذا النهج.
الواضح أن أجواء تقرير بيكر ــ هاملتون كانت تخيّم على الحاضرين وبعضهم من كان قد جال في المنطقة حديثاً واستند في طرحه إلى انطباعات شخصية. والواضح أيضاً أنه مثلما كانت لجنة بيكر ــ هاملتون مؤلفة مناصفة من أعضاء في الحزبين، فإن انتقادات الشيوخ لم تفرّق بين الجمهوري والديموقراطي بينهم مع ملاحظة أن بعض الجمهوريين كان الأكثر عنفاً مثل تشاك هاغل الذي استدعت مداخلته... التصفيق!
يطرح المعترضون منطقاً متماسكاً: تواجه سياستنا في العراق فشلاً متدحرجاً، البلد في حالة حرب أهلية، المطلوب فتح باب الانكفاء وتهدئة الوضع، لا بد من توفير بيئة إقليمية مستقرّة ومتعاونة لهذا الغرض.
في مواجهة هذا التوجّه كانت رايس تتخبّط وتدافع عن مزيد من الحرب (لأن المالكي يريد وبوش لا يستطيع أن يرفض له طلباً) وعن احتمال توسيع الحرب. رفضت رايس، باسم الإدارة، أي بحث في احتمال الحوار الإقليمي. حججها هي الآتية:
1 ــ ثمة اصطفاف جديد للقوى في الشرق الأوسط وواشنطن تقف مع المعتدلين.
2 ــ لقد سبق للولايات المتحدة أن حاولت التحاور مع سوريا ولم تنجح.
3 ــ تعرف إيران وسوريا ما عليهما فعله. لتفعلاه.
4 ــ ستطالب إيران بمقابل في المجال النووي لا تستطيع أميركا تقديمه، وكذلك الأمر مع سوريا التي ستطالب بمقابل في لبنان.
5 ــ الولايات المتحدة، اليوم، في موقع أضعف قياساً بما كانت عليه قبل سنوات، لذلك فإن أي توجّه للحوار سيبدو طلباً للنجدة ونوعاً من التوسّل.
حجج رايس متهافتة. فهي ترفض تقديم شيء إلى إيران وسوريا، ولكنها، في الواقع، لا تقدم أي شيء لـ«المعتدلين العرب». وهي لا تفعل سوى أن تصبّ زيتاً إقليمياً على النار العراقية. تسد باب الحوار الذي يمكن له أن يساعد وتبالغ في الاتكال على «إيجابيات» الداخل العراقي وحده. وتضطر، في النهاية، إلى الكذب الصريح. فمحاوروها الديموقراطيون لم يتحدثوا عن «تنازل» لإيران في النووي أو لسوريا في لبنان، ومع ذلك فهي تساجلهم في هاتين النقطتين. ثم إن تقرير بيكر ــ هاملتون شديد الوضوح في استبعاد ملفّي النووي ولبنان عن أي «صفقة».
تقدم جلسة الاستماع المشار إليها فكرة عن المتاعب الداخلية التي ستواجهها الإدارة وعن عجزها عن بناء أطروحة متماسكة في حال تعرضها لنقد جدي. إلا أن الجلسة إيّاها تقدم شيئاً آخر هو أن فكرة اقتراح تسويات على المنطقة ودولها تحرز تقدماً وتخترق مواقع غير محسوبة في قلب «المؤسسة» الأميركية.
إن فشلاً يلحق باستراتيجية بوش العراقية والإقليمية هو الوحيد القادر على نقل المنطقة إلى حيث لا تكون الصراعات فيها مفتوحة، حصراً، على الفوضى. لن تكون الفوضى مستبعدة، ولكنها لن تعود الأفق الوحيد.